معالم سياحية

لغز عمره 1600 عام.. كيف صمدت فينيسيا فوق غابة غارقة؟ أسرار هندسية تكشف لأول مرة

محمد أحمد كيلاني 

في القرن الخامس الميلادي، بينما كانت الإمبراطورية الرومانية تتهاوى تحت ضربات القبائل البربرية، وجد سكان شمال إيطاليا ملاذًا غير متوقع في تلك البحيرة الموحلة التي تبدو غير صالحة للسكن. لقد اكتشفوا أن المياه المالحة والطينية تشكل حاجزًا طبيعيًا يحميهم من الغزاة، فقرروا تحويل هذا المستنقع إلى مدينة حصينة. ولم يكن اختيار الموقع مجرد قرار دفاعي، بل تحول لاحقًا إلى إنجازٍ هندسي فريد في تاريخ البشرية، تعرف معنا على المعجزة الإنشائية لفينيسيا أو مدينة البندقية.

فينيسيا
َ

المعجزة الإنشائية.. كيف تحولت الغابة إلى أساساتٍ حجرية؟

قام بناء البندقية على مبدأ علمي مدهش. فقد استخدم المهندسون ملايين جذوع أشجار الألدر التي تتميز بخاصية استثنائية: فهي لا تتعفن عند غمرها في الماء المالح والطين. مع مرور القرون، تتحول هذه الأخشاب إلى مادةٍ شبيهة بالحجر من خلال عملية طبيعية تشبه التحجر.

تخيل أن برج أجراس سان ماركو الشهير يرتكز على أكثر من مئة ألف جذعٍ خشبي، بينما تطلبت كنيسة سانتا ماريا ديلا سالوتي أكثر من مليون جذع. كل هذه الجذوع تم غرسها يدويًا في قاع البحيرة بعمق ثلاثة أمتار، بمسافات دقيقة بينها لضمان توزيع متساوٍ للأوزان.

فينيسيا والتحديات الهندسية التي حيرت العلماء

مقاومة عوامل الزمن

صمم البناؤون نظامًا معقدًا لمنع تآكل الأخشاب. حيث أن غمر الجذوع في الطين يحرمها من الأكسجين الضروري للتحلل، بينما تعمل المياه المالحة على حفظها. الأكثر إثارة أن هذه الأخشاب تزداد صلابة مع مرور الوقت، مما يجعل أساسات المدينة اليوم أكثر متانة مما كانت عليه قبل قرون.

مواجهة حركة المد والجزر

ابتكر المهندسون نظامًا مرنًا يمتص تقلبات منسوب المياه. المباني الرخامية الفاخرة ترتكز على طبقات متناوبة من الأخشاب والصخور، مما يسمح لها بالتحرك قليلاً مع الأمواج دون أن تنهار. هذه التقنية جعلت المباني تصمد أمام آلاف السنين من العواصف والفيضانات.

فينيسيا في العصر الحديث.. بين السياحة والتهديدات

أصبحت المدينة العائمة واحدة من أشهر الوجهات السياحية العالمية، حيث يستقبلها أكثر من مئة ألف زائر سنويًا. لكن هذه الشعبية جاءت بتحديات كبيرة. ارتفعت أسعار الإقامة بشكل جنوني، وأصبح الازدحام في القنوات المائية مشكلة يومية.

في محاولة للحد من الزحام، فرضت السلطات رسومًا على الزوار تصل إلى عشرة يورو للزيارات اليومية. كما تواجه المدينة خطر الغرق التدريجي بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر والتغيرات المناخية، مما دفع الحكومة الإيطالية إلى بناء نظام “موسى” للحواجز المتحركة الذي يكلف مليارات اليورو.

حقائق غريبة تكشف عبقرية المدينة

تخفي البندقية العديد من الأسرار التي لا يعرفها معظم الزوار. المدينة التي كانت يومًا قوة بحرية عظمى تحمل لقب “ملكة البحر الأدرياتيكي”. تحتوي على شبكة معقدة من 400 جسر و177 قناة مائية، أشهرها القناة الكبرى التي تعتبر الشريان الرئيسي للمدينة.

مهرجان البندقية السنوي بالأقنعة التراثية ليس مجرد احتفال، بل تقليد يعود إلى القرون الوسطى عندما كان الأرستقراطيون يستخدمون الأقنعة لإخفاء هوياتهم والاختلاط بجميع طبقات المجتمع.

مستقبل فينيسيا بين الحفظ والاندثار

تواجه البندقية معضلة وجودية. من ناحية، تحتاج إلى السياحة كمصدر دخل رئيسي، ومن ناحية أخرى، فإن الزحف السياحي يهدد بنيتها التحتية الهشة. التقديرات العلمية تشير إلى أن المدينة قد تصبح غير صالحة للسكن بحلول نهاية القرن الحالي إذا استمر ارتفاع منسوب مياه البحر بالمعدل الحالي.

بينما تعمل منظمات مثل اليونسكو على حماية التراث المعماري الفريد، يبقى السؤال: هل يمكن إنقاذ هذه التحفة الهندسية من مصيرها المحتوم؟ الإجابة قد تكمن في التوازن الدقيق بين الحفظ والتكيف مع التغيرات المناخية التي لم يكن البناؤون الأوائل يتخيلونها.

تظل البندقية شاهدة على قدرة الإنسان الخلاقة في تحدي قوانين الطبيعة، لكنها أيضًا تذكير صارخ بمدى هشاشة إنجازاتنا أمام قوى الطبيعة الجبارة. هذه المدينة التي صمدت ستة عشر قرنًا تواجه الآن اختبارًا وجوديًا قد يحدد ما إذا كانت ستستمر كمعجزة حية، أم ستتحول إلى أسطورة غارقة مثل أتلانتس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *