محمد أحمد كيلاني
منذ أكثر من 5000 عام، طورت منطقة في جنوب العراق الحالي التخطيط الحضري لأول مرة في التاريخ، وتم بناء المعابد والقصور، وولدت الكتابة لتكون قادرة على الحفاظ على السيطرة على نظام تجاري جديد ومتطور، وعاش هناك ما وصل إلى 70.000 نسمة، وكان المكان معروفًا باسم أونو لدى السومريين أنفسهم، وهي الثقافة التي ولدت بها هذه المدينة الأولى، ويسميها الكتاب المقدس إريك واليوم تعرف باسم وركا، نسبة إلى المدينة الحديثة الأقرب إلى الموقع، إلا أن الاسم الأكثر انتشارًا هو الذي أطلقه عليها الأكاديون “مدينة أوروك”.
تأسيس مدينة أوروك
يعكس أصل أوروك لحظة حاسمة في تاريخ البشرية، وهو الانتقال من مجتمعات ما قبل التاريخ إلى المجتمعات الحضرية التي تم إدراجها بالفعل في التاريخ مع ولادة الكتابة كضرورة لدعم الأشكال المعقدة من العلاقات التجارية.
ولهذا التحول تمثيل مادي في أوروك، وهي المدينة التي نشأت على ضفاف نهر الفرات في المجرى السفلي “لأرض ما بين النهرين” التي نعرفها ببلاد الرافدين، وكما جرت العادة عند التعامل مع مثل هذه الجوانب التاريخية القديمة، فإن المعلومات التي لدينا عن أوروك هي مزيج بين الأساطير والخرافات والتقاليد الأدبية ودراسة بقاياها، والتي نشهد بها أيضًا أول علم آثار تمت معالجته من وجهة نظر أكثر. علمية وليست مجرد البحث عن الكنوز المدفونة.
أصل الغجر.. تاريخ الشعب التائه
ووفقاً لقائمة الملوك السومريين، فقد تأسست مدينة أوروك على يد “الملك إنمركار” في حوالي العام 4500 قبل الميلاد، وهي أقدم بقايا تدل على وجود تجمع بشري، ويعود تاريخها إلى العصر الأبيض، أي ما بين 5000 و3800 قبل الميلاد، ولكن لم يمكن اعتبارها مدينة في ذلك الوقت.
ووفقا لعلم الآثار، بدأت أوروك في تركز السكان بين 3500 و 3200 قبل الميلاد، وأكملت انتقالها إلى مدينة في حوالي العام 3000 ق.م، ومن الممكن أن يكون ذلك نتيجة اتحاد مستوطنتين موجودتين مسبقًا، وهما إيانا، وكلابا.
وفي الواقع، تم تقسيم المدينة إلى قسمين، أحدهما مخصص للإلهة إنانا (التي سميت فيما بعد عشتار) والآخر للإله آنو.
أصل الزقورات
تم صعود المدينة خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، عندما تجاوز عدد سكان أوروك 40 ألف نسمة وأصبحت أهم مركز للعبادة والإدارة في سومر، والتي ألهم تكوينها مراكز حضرية أخرى أن تولد في بلاد ما بين النهرين.
وفي ذلك الوقت تم رفع السور المحيط بالمدينة، بحسب الأسطورة التي بُنيت بأمر من جلجامش، أشهر سكانها، والذي تكتنفه أيضًا الأسطورة، بطل أول ملحمة روائية للإنسانية.
وبالإضافة إلى الجدار، تم بناء قنوات متصلة بنهر الفرات لتسهيل الاتصال بالممرات المائية ولتكون مورداً للزراعة، وشهدنا في أوروك أحد الأدلة الأولى على العمارة الحضرية الضخمة.
ويجب تسليط الضوء على المعبد المعروف “بالمعبد الأبيض”، وهو المبنى الرئيسي للمدينة، والذي كان هيكله يسبق “الزقورات”، وهي معابد على شكل هرم مدرج انتشرت في جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين.
مدينة أوروك وولادة الكتابة
في أوروك، تطورت التجارة القائمة على المقايضة وذلك وفقًا لمقياس القيم، مما أدى هذا الوضع إلى رفع الاقتصاد إلى نطاق أوسع في المدينة وظهرت الحاجة للسيطرة على كل هذه التبادلات، وهكذا ولدت الكتابة وتم العثور على بعض أقدم العينات في التاريخ يأوروك.
فإن الألواح الطينية التي نقشت عليها الصور التوضيحية، واللتي تعتبر النصوص القديمة لأوروك مع تمثيل الأشياء ورؤوس الماشية وقياسات الحبوب إلى جانب الكميات التي كانت أول نظام تسجيل محاسبي ظهرت منه الكتابة المسمارية فيما بعد.
وعلى الرغم من أنها كانت تفقد عدد سكانها، إلا أن أوروك حافظت على احتلالها حتى القرن الثالث الميلادي، وتم اكتشافها على يد “ويليام كينيت لوفتوس” في منتصف القرن التاسع عشر، على الرغم من أنه لم يتم التنقيب في المنطقة حتى العقد الثاني من القرن العشرين.
وقد كلفت المدرسة الألمانية بإلقاء الضوء على بقايا ما عرف فيما بعد بأنها أول مدينة في التاريخ، في مرحلة جديدة لعلم الآثار تم فيها وضع الرغبة في البحث عن الكنوز والأساطير جانبًا من أجل التركيز على تطوير أسلوب علمي، والذي من خلالها سيتم فهم الماضي بشكل أفضل.
أقرأ أيضاً.. أهرامات المكسيك.. “تيوتيهواكان” المدينة المُقدسة