محمد أحمد كيلاني
كان تمثال رودس العملاق، رمزًا عملاقًا يقع بالقرب من ميناء مدينة رودس، وهي المدينة الرئيسية للجزيرة التي تحمل الاسم نفسه، وتقع في البحر الأبيض المتوسط، وتحديدًا في بحر إيجة، بالقرب من الساحل التركي وهي أكبر الجزر اليونانية في هذا البحر.
وبدأ بناء التمثال الذي يمثله “إليوس إله الشمس” عام 292 م، وكانت مدة البناء 12 سنة، وهو يحمل الرقم القياسي لأقصر مدة من بين عجائب العالم الأخرى، حيث تم هدمه بعد 60 عامًا فقط من بناءه.
وصف تمثال رودس
مع هذا العمر القصير، من الصعب معرفة شكل هذا التمثال بالضبط، ومع ذلك، فقد كانت شعبيته كبيرة لدرجة أنه تم وصفه وإعادة إنتاجه عدة مرات.
وتقول المصادر أنه كان شبه عارٍ مع تاج على رأسه ويلوح بيده، وكان ارتفاعه 32 متراً ومصنوع من البرونز ما عدا القاعدة والقدمين، التي كانتا مصنوعة من الرخام.
ويُقال أن وجه تمثال رودس العملاق كان وجه الإسكندر الأكبر، لكن من المستحيل تأكيد أو إنكار ذلك.
موقع تمثال رودس العملاق
رودس هي أكبر جزيرة يونانية من جُزر دوديكانيز، التي تبعُد 19 كم فقط عن الساحل التركي، والميناء الخاص بها معروف أيضًا باسم رودس، وهو المكان الذي يوجد فيه التمثال، لكن لا أحد يعرف الموقع بالتحديد.
ولم تسفر الحفريات الأثرية عن أي شيء حتى الآن، وهذا ليس مفاجئًا لأن الموقع أصغر بكثير من موقع “معبد أرتميس” على سبيل المثال، وبمجرد إنهيار التمثال تم تطهير الموقع.
ومن المحتمل أن يكون التحضر في رودس ومينائها سببًا مُحتمل في ضياع أي أثر أو دليل، وأصبح من المستحيل اليوم معرفة الموقع بالتحديد.
وفي ذلك الوقت كانت مدينة رودس محمية بسور يبلغ طوله 15 كم وخندق مائي عريض، مما أجبر المهاجمين على استخدام برج لدخول المدينة التي احتوت على معبد كبير مخصص لإله الشمس.
ويقال أن هذا الإله كان حامي رودس، ويعتَقد البعض أن التمثال كان يقع بالقرب من هذا المعبد، لكن الرسومات والوصف الذي وصل إلينا يشير إلى أنه كان بالأحرى عند مدخل الميناء.
فالعديد من الرسومات تُظهر تمثالاً يمر عبر مدخل الميناء، وكان التمثال يزيد عن 30 مترًا، وإذا كانت النسب صحيحة، فإن العرض الصغير الذي يسمح به تباعد الأرجل قد يتسبب في تضييق غير مقبول لمدخل الميناء، وتبقى كل تلك الفرضيات مُجرد تكهنات، ويمكن أن يكون بعضها مقبول، والبعض الآخر غير ذلك.
أسباب البناء
إن السبب وراء بناء هذا التمثال يعود إلى إنتصار في حرب خاضوها عام 304 قبل الميلاد، وفي تلك المعركة، نجت الجزيرة من حصار مروع تسبب فيه “ديميتريوس بوليورسيتي”، وهو أحد جنرالات الإسكندر الأكبر، الذي تلقى أمر “أنتيجون” ليصبح سيد البحر الأبيض المتوسط ويؤكد هيمنته على الجُزر اليونانية.
واستمر الحصار لمدة عام، أي ما بين 305 و 304 قبل الميلاد، وتم صده، ومن أجل شكر الإله الحامي هيليوس، قرروا بناء تمثال عملاق له.
تمثال رودس العملاق
ومن الجدير بالذكر أنه في العصور القديمة كانت جزيرة رودس مشهورة بتماثيلها، ووفقًا للمؤلف الروماني “بليني”، فقد كانت العاصمة تفتخر بوجود 3000 تمثال، مصنوعين من الحجر والبرونز، وإذا كان عدد التماثيل الكبير جعل الجزيرة مميزة، إلا أنه لم يكن بها تماثيل عملاقة، لذلك تم بناء تمثال رودس العملاق.
طريقة التمويل
كان التمويل أصليًا تمامًا، فهذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذه العملية في تاريخ البشرية، على الأقل بالنسبة للأعمال الرئيسية، فقد تم جمع الأموال من خلال إعادة بيع المعدات العسكرية التي تركها “ديميتريوس” على الأرض، وهو الذي قاد الحصار بأكثر من 40 جندي الهجوم.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أنه خلال القرن الرابع قبل الميلاد، شهدت مدينة رودس طفرة اقتصادية كبيرة، وكان هناك تحالف مع الملك “بطليموس سوتر الأول” ملك مصر، وذلك في عام 305 قبل الميلاد.
ولا يوجد شك في أنه كان لابد من العثور على تمويل آخر، لكن ليس من الواضح كم أو من جلبه، وفي بعض المصادر تم ذكر أن الناس هم الذين مولوا لبناء النصب التذكاري الذي سيكون رمزًا المدينة.
من نحت تمثال رودس العملاق
نحات تمثال رودس العملاق معروف جيدًا، وهو “تشاريس دي ليندوس”، وكان تشاريس متمسكًا بأسلوب واقعي، تمامًا مثل فيدياس، نحات تمثال زيوس.
وكان هذا الأسلوب أكثر تعقيدًا في التنفيذ لأنه يتطلب إتقانًا كبيرًا في تصميم الشخصية، وقد ضخم هذا النمط من التمثال وذلك من أجل ترجمة القوة والهيمنة.
مراحل بناء تمثال رودس
بدأ بناء تمثال رودس العملاق في عام 292 قبل الميلاد واستمر حتى عام 280 قبل الميلاد، وكانت مدة العمل 12 عامًا.
وكانت قاعدة المبنى عبارة عن قاعدة رخامية، وهي مادة قوية من أجل تحمل الوزن، وعلى هذه القاعدة، قام العمال بتكديس الحجارة لقطع القدمين، ثم الساقين، ثم باقي الجسم.
وشكل هذا تمثالًا لكنه لم يكن متناغمًا، وبعد ذلك جاء عمال آخرون لتطويق الحجارة بشريط حديدي محكم، وذلك على فترات منتظمة، وعلى طول إرتفاع التمثال، وكان هذا الشريط بمثابة وسيط، وتم تثبيت الألواح البرونزية لتزيين التمثال.
وكان البرونز خليط من الحديد والنحاس، وجاء النحاس من المناجم القبرصية، ولعمل الألواح البرونزية، تم صهر النحاس أولاً في أفران كبيرة، ثم تمت إضافة الحديد بعد ذلك، وتم نقل الخليط في نوع من المغارف التي استخدموها لتوزيع المعدن في قوالب طينية.
وكانت الخطوة التالية هي إزالة الحواف الخشنة ثم تلميع الألواح قبل نقلها إلى الموقع، حيث تم طرقها بالشكل المطلوب ثم تجميعها فوق الإطار الحديدي والألواح الأخرى بالمسامير، وكانت صفيحتا القدم والكاحل مميزتين.
وهكذا، كان تمثال رودس مغطى بغشاء رقيق من البرونز، وجسمه مصنوع من الحجر، وتم إرفاق كل لوحة بالإطار الحديدي، وكان التمثال يكتسب ارتفاعًا يومًا بعد يوم حتى تم الوصول إلى الرأس، وبمجرد الانتهاء، كان مصقولًا بحيث ينعكس منه ضوء الشمس بأكبر قدر ممكن.
من الجدير بالذكر، أن تقنية البناء هذه مشابهة تمامًا لتلك المستخدمة في بناء “تمثال الحرية” في نيويورك، وبصرف النظر عن حقيقة أن الأخير له هيكل معدني، فهو مصنوع من صفيحة نحاسية متصلة بالهيكل بواسطة قضبان حديدية.
إختيار المواد
لم يكن إختيار البرونز عشوائيًا، ولكن تمت دراسته جيدًا، فسبيكة من النحاس والحديد، أقوى من الحديد ومقاوم للظروف الجوية القاسية، لذلك فهي تتكيف بشكل جيد مع صناعة التماثيل، وتحميه، وبالأخص من هواء البحر المحمّل بالملح.
نهاية التمثال
لسوء الحظ، فإن تمثال رودس العملاق هو أعجوبة العالم القديم الذي كان له أقصر عمر، حيث بقى مُشيد لمدة 60 عامًا فقط، ولا بد من القول أن شكل التمثال وعملقته في ذلك الوقت والوسائل المستخدمة في بنائه ساعدت في جعله سريع الزوال.
وتم تدمير تمثال رودس العملاق خلال زلزال كبير حدث عام 226 قبل الميلاد، وتم كسر قدم التمثال وأنهار بالتدريج بعد ذلك، وبقيت القطع في مكانها لمدة 800 عام، ولا ندري لأي سبب اختفت تلك القطع، ويقال أنه في عام 654 م، تم بيع البرونز لتاجر سوري، وتم نقل المعدن على ظهر 900 جمل، وبذلك انتهى تمثال رودس العملاق أحد عجائب الدنيا السبع القديمة.
أقرأ أيضاً.. معبد الزمرد بوذا.. تحفة معمارية غير مدرجة في قوائم اليونسكو