محمد أحمد كيلاني
في قلب بلاد ما بين النهرين القديمة، وبالتحديد بين نهري دجلة والفرات، وقفت مدينة بابل بشكل مهيب، رمزًا للقوة والبذخ، فقد كانت أسوارها العالية تحمي منطقة معزولة تتجلى فيها العظمة في كل التفاصيل المعمارية، ولكن ربما لا يوجد عمل يجسد هذه الروعة بشكل أفضل من “بوابة عشتار” (Ishtar Gate) والتي تم تسميتها على اسم الإلهة البابلية عشتار.
ولم تكن مجرد مدخل للمدينة، بل كان نصبًا تذكاريًا لعظمة وفن إحدى أكثر الثقافات ازدهارًا في الشرق الأدنى القديم، وقد أمر ببنائها “نبوخذنصر الثاني” في عهد حكومته ما بين 605 و562 قبل الميلاد، وهذه التحفة الفنية المصنوعة من الطوب المزجج وبلاط اللازورد، برزت بين المباني التي كانت تزين العراق القديمة.
بوابة عشتار.. منفذ إلى الماضي
مع صفوف من التنانين والأسود والثيران المنحوتة في الطوب المزجج، تظل بوابة عشتار مشهدًا مهيبًا حتى بعد أكثر من 2500 عام من بنائها، فنغماتها الذهبية والزرقاء، التي تتناقض في رقصة الألوان، تركت أولئك الذين حظوا بشرف التأمل فيها لاهثين.
وتم تشييد هذه البوابة المهيبة على ثلاث مراحل مختلفة، وكانت بمثابة المدخل الرئيسي للمدينة ورمزًا لقوة بابل وثرواتها.
ولفترة طويلة، كان بناء بوابة عشتار موضوع نقاش بين علماء الآثار والمؤرخين، ويُعتقد أنه تم تشييدها لإحياء ذكرى فتح القدس على يد نبوخذنصر الثاني، لكن دراسة أثرية مغناطيسية حديثة كشفت عن معلومات جديدة حول هذا النصب القديم.
وتوفر هذه الطريقة، التي تقيس الخواص المغناطيسية للمواد الأثرية التي يتم تسخينها إلى درجات حرارة عالية، تأريخًا أكثر دقة من طريقة “الكربون 14” المعتادة، وذلك بحسب الدراسة الجديدة التي نشرت في مجلة (PLOS One)
استراتيجية الدراسة
في هذه الدراسة، قام العلماء بتحليل الطوب الطيني المحروق المستخدم في بناء بوابة عشتار، مجمع مدخل مدينة بابل القديمة في جنوب بلاد ما بين النهرين.
وتمكنوا من استخلاص بيانات كثافة موثوقة من المراحل الثلاث للبوابة، والتي تتضمن أولها طوبًا منقوشًا عليه اسم الملك نبوخذنصر الثاني.
وتضيف هذه النتائج بيانات كثافة عالية الجودة إلى منطقة غير مستكشفة نسبيًا حتى الآن (جنوب بلاد ما بين النهرين)، وتساهم في فهم أفضل للتنوع القديم في هذه المنطقة، وفي تطوير مرجع تأريخ أثري مغناطيسي لمنطقة رئيسية من تاريخ الحضارات الإنسانية.
وقام علماء الآثار، في محاولة لكشف أسرار بوابة عشتار، بجمع عينات من الطوب الطيني المحروق من المراحل الثلاث للبناء، وذلك باستخدام تقنية المغناطيسية الأثرية، وتمكنوا من تحديد تواريخ كل مرحلة من مراحل البناء بدقة أكبر، والمثير للدهشة أنهم وجدوا أنه لا توجد فجوات كبيرة بين المراحل، وأن بناء البوابة ربما اكتمل حوالي عام 583 قبل الميلاد.
لماذا تم بناء بوابة عشتار؟
يتحدى هذا الاكتشاف الفكرة المقبولة سابقًا بأن بوابة عشتار تطورت خلال مراحل البناء المختلفة، وبدلا من ذلك، فإنه يشير إلى أن التصميم الأصلي للبوابة ظل ثابتًا طوال فترة إنشائها، مما عزز أهميتها كرمز موحد للعظمة البابلية.
وعلاوة على ذلك، كشفت الدراسة أن بوابة عشتار بنيت بعد وقت قصير من الدخول البابلي للقدس عام 586 قبل الميلاد، مما يشير إلى احتمال حدوث تغيير في الغرض الذي كان حتى الآن يعتبر بين الباحثين.
وفي حين كان يُعتقد في البداية أن البوابة تخلد ذكرى هذا النصر العسكري، فقد أثير الآن احتمال أن يكون بناؤها مرتبطًا بأحداث لاحقة، مثل توطيد نبوخذ نصر الثاني لسلطته في المنطقة.
وبوابة عشتار، أكثر من مجرد مدخل بسيط للمدينة، بل أصبحت من بقايا التاريخ القديم، وتبقى روعتها عبر القرون، لتذكرنا بروعة وعظمة الحضارة البابلية.
وفي متحف بيرغامون في برلين، حيث تُعرض حاليا بقايا بوابة عشتار، يمكن للزوار رؤية قطعة من مجد بابل السابق، وعلى الرغم من أن النصب نفسه عانى بمرور الوقت، إلا أن جوهره لا يزال قائما، مما يدعو كل من يراقبه إلى التعجب من عظمة نصب تذكاري جميل بقدر قدمه.
وفي الأخير فقد كشفت الدراسة الأثرية المغناطيسية لبوابة عشتار عن تفاصيل جديدة حول بنائها والغرض منها، مما يوفر رؤية أكثر اكتمالاً لهذا النصب التذكاري الشهير لبابل القديمة.
ومن خلال الجمع بين العلم وعلم الآثار، نواصل اكتشاف أسرار ماضينا، مما يسمح لنا بتقدير وفهم العجائب التي تركتها لنا الحضارات القديمة بشكل أفضل، ومن ظلال الزمن، تستمر بوابة عشتار في سرد قصة عصر من الروعة والعظمة للعراق.
أقرأ أيضاً.. تاريخ بابل.. الكشف عن صعود “القوة الكبرى” في بلاد ما بين النهرين