محمد أحمد كيلاني
منذ فجر الوعي، كان البشر مهتمين بحل اللغز العميق والذي كان بمثابة الوجود نفسه، ماهي وما أصل اللغة، وقد ظلت هذه القدرة، التي ترفعنا فوق بقية المخلوقات، وهي واحدة من أعظم الأشياء المجهولة، وهي لغز استحوذ على خيال وحماسة العلماء والمفكرين عبر التاريخ، فكيف جاءت كلماتنا الأولى؟ من أين تأتي هذه القدرة على إيصال الأفكار والعواطف المعقدة؟ والبحث عن إجابات يأخذنا في رحلة رائعة عبر الزمن، ويكشف عن أدلة مدفونة في علم الأحياء، وثقافتنا، وأساطيرنا.
ما هي اللغة.. إيقاظ اللغة
لقد غيرت النتائج العلمية الحديثة عقارب الزمن في فهمنا لأصل اللغة، مما يشير إلى عصر أبعد بكثير مما كنا نتصوره من قبل، وتشير الأبحاث إلى أن جذورها يمكن أن تعود إلى 1.6 مليون سنة مضت، وهذه الصحوة اللغوية لدى البشر الأوائل، الذين عاشوا في سهول أفريقيا، كانت بمثابة علامة على ما قبل وبعد في مسارنا كنوع.
لم يكن تطور اللغة إنجازًا ثقافيًا غير مسبوق فحسب، بل استلزم أيضًا تحولات جسدية ومعرفية كبيرة، وقد كان النمو المتسارع للدماغ البشري، وخاصة في المناطق المرتبطة بفهمها وإنتاجها، أحد هذه التغييرات الأساسية، وعلاوة على ذلك، فإن إعادة تنظيم بنية الدماغ الداخلية، بما في ذلك ظهور منطقة الفص الجبهي المرتبطة باللغة، يعكس التكيف البيولوجي مع احتياجات التواصل المعقدة.
وسهلت هذه التغييرات التشريحية والعصبية تكوين الجمل وإيصال الأفكار المتقدمة، فضلاً عن التعاون والتخطيط غير المسبوق بين أسلافنا، مما ساهم في تشكيل أسس مجتمعنا الحالي، ولذلك أصبح ظهور اللغة عنصرا أساسيًا لبقاء الإنسان وتطوره، مما يدفع تطورنا بطريقة عميقة لا رجعة فيها.
اللغز
قصة تيامات ومردوخ، جوهرة أساطير بلاد ما بين النهرين، تحكي عن الصراع بين الآلهة وخلق العالم، بالإضافة إلى ذلك، فإنه يوفر نافذة على كيفية إدراك الحضارات المبكرة لأصلها وقوتها، وتعكس هذه الأسطورة، كغيرها من القصص القديمة، التبجيل والغموض الذي أحاط بالكلمة المنطوقة، التي تعتبر هبة إلهية أو فتحًا أسطوريًا، أساسية للتنظيم الاجتماعي والممارسات الدينية ونقل المعرفة.
ومن خلال هذه الأساطير، يمكننا أن نلمح فكرة اللغة البدائية، وهي منطوقة عالمية انبثقت منها جميع اللغات البشرية، مما يعكس سعي الأجداد لفهم التنوع اللغوي في العالم، وفكرة اللغة الأم هذه، وإن كانت أسطورية، إلا أنها تؤكد الأهمية التي أولتها ثقافاتنا القديمة لها باعتبارها دعامة الحضارة ومحرك التطور الثقافي والمعرفي للإنسانية.
أساطير وتجارب للعثور على أصل اللغة
منذ زمن سحيق، أسر أصلها الخيال البشري، مما أدى إلى ظهور العديد من الأساطير والتجارب، ويروي هيرودوت، أبو التاريخ، كيف سعى الفرعون أو الملك المصري القديم بسماتيكوس الأول لاكتشاف اللغة البدائية من خلال تجربة مع طفلين نشؤوا في عزلة، على أمل أن تكشف كلمتهما الأولى عن أقدم لغة.
وقد عكست هذه المحاولة لكشف ألغاز قدرتنا التواصلية فضولًا عميقًا حول جذورنا اللغوية، وتوضح هذه القصص القديمة، بما يتجاوز دقتها التاريخية، شوق الإنسان لفهم ليس فقط كيف نكتسب اللغة، ولكن أيضًا سبب كونها جوهرية في طبيعتنا وإن الانبهار بهذه التجارب والأساطير يؤكد سعينا المستمر لفهم ما يجعلنا بشرًا، مما يدل على أنها، في جوهرها، أحد الأركان الأساسية لهويتنا الجماعية.
ماذا يقول العلم؟
في العصر المعاصر، تولى العلم مهمة البحث عن إجابات حول أصل اللغة، ونشر مجموعة من النظريات والاكتشافات التي، على الرغم من أنها ليست قاطعة، إلا أنها قدمت لمحات رائعة عن هذه القدرة الفريدة، وتبرز النظرية الإيمائية، التي تقترح أنها تطورت في البداية من الإيماءات اليدوية قبل ظهور الكلام، من بين الفرضيات الأكثر إثارة للجدل، مما يشير إلى أن التواصل غير اللفظي كان سلف تعبيرنا اللفظي.
وفي نفس السياق، قدمت الأبحاث الجينية أدلة مهمة، لا سيما من خلال دراسة جين (FOXP2)، المعروف باسم “جين اللغة”، والذي أظهر طفرات محددة لدى البشر مرتبطة بالقدرات اللغوية والمعرفية، وتشير هذه النتيجة إلى وجود أساس بيولوجي لتطورها، مما يعزز فكرة التطور المعقد والمتعدد الأوجه لهذه القدرة.
من أين أتت؟
لقد سمح لنا التقدم التكنولوجي والاكتشافات الأثرية باستكشاف كل شيء، بدءًا من هياكل الدماغ لدى أسلافنا وحتى إعادة بناء أنماط الهجرة البشرية، وتسليط الضوء على كيفية ظهورها ومتى، وعلى الرغم من هذا التقدم، فإن لغز أصلها لا يزال قائما، مما يبقي الفضول العلمي حيًا، وتستمر هذه الجهود متعددة التخصصات في كشف تعقيد اللغة، وهي إحدى أقوى أدوات البشرية، والتي يظل نشأتها أحد أعمق الألغاز في وجودنا.
إن أصل اللغة، بكل تعقيداتها، يشبه اللغز الذي قد لا تتناسب قطعه المتناثرة عبر الزمن والعلم بشكل كامل. إلا أن هذا اللغز لا يقلل من قيمته، بل إنه يسلط الضوء على حجم هذه الهدية التطورية التي تحددنا بعمق كنوع، واللغة هي نسيج واقعنا، فهي تشكل ثقافاتنا وهوياتنا، وتوحدنا في التنوع البشري، وبينما نواصل كشف أسرارها، فإننا مدعوون لتقديرها والاحتفال بها ليس فقط كوسيلة للتواصل، بل كإرث يعكس جوهرنا العميق واتصالنا المشترك.
أقرأ أيضاً.. اللغة السنسكريتية.. أول ما نُطق في الهند