محمد أحمد كيلاني
في أقصى جنوب الأرجنتين، بين جزيرة تييرا ديل فويغو الكبرى وقناة بيغل، تَدعي أوشوايا أنها المدينة التي تقع في نهاية العالم، ومع ذلك، فإن مناظرها الطبيعية المهيبة، المكونة من الجبال والأنهار الجليدية والمستنقعات الخثية، تخفي ماضًا ليس رائعًا، وهو سجن أوشوايا.
ففي نهاية القرن التاسع عشر، كانت أوشوايا مستوطنة صغيرة بدون شوارع أو كتل محددة، وهي مدينة متنامية تتميز بجوها الريفي والخلاب، ومع ذلك، تسارع تحولها في عام 1896 مع بناء هذا المركز الإصلاحي الذي من شأنه أن يعزز استعمار المنطقة لضمان سيادة الأرجنتين في أقصى جنوب القارة.
الإغلاق والعزلة
في ذلك الوقت، أدت الهجرة الأوروبية المتزايدة إلى بوينس آيرس أيضًا إلى اكتظاظ سجون العاصمة، الأمر الذي حول سجن أوشوايا إلى سجن لمرتكبي الجرائم المتكررة والمجرمين الخطرين، على الرغم من أنه كان يضم أيضًا سجناء سياسيين.
وشمل ذلك نقل المدانين من العاصمة، الذين اضطروا إلى قضاء عقوباتهم في الظروف المناخية القاسية في أقصى جنوب باتاغونيا.
ويُعرف هذا السجن أيضًا باسم سجن نهاية العالم، وكان له هدفين رئيسيين، الأول، تثبيط ارتكاب الجرائم بسبب موقعه النائي وغير المضياف، والثاني هو الاستفادة من عمل النزلاء في أنشطة مثل قطع الأشجار والتعدين لأغراض أخرى.
ولهذا السبب، فقد ضمت أيضًا خط السكة الحديد الواقع في أقصى جنوب الكوكب، التي تعمل حاليًا لأغراض سياحية، وهو التي كانت تنقل السجناء إلى معسكرات العمل الواقعة فيما يعرف الآن بمنتزه تييرا ديل فويغو الوطني.
مكونات سجن أوشوايا
يضم مجمع السجون المكون من خمسة أجنحة، والذي بناه السجناء أنفسهم بالحجارة، وهي نفس الهندسة المعمارية التي تم اعتمادها في بعض البلدات المجاورة بسبب متانتها، ويتسع السجن لأكثر من 540 سجينًا و250 حارسًا.
وفي المجمل، كانت هناك 380 زنزانة ذات جدران صخرية يبلغ سمكها 60 سم، وعندما تجاوز عدد نزلاء السجن طاقته الاستيعابية، تم استخدام الاسطبلات لإيواء ما يصل إلى 50 سجينًا إضافيًا.
ومن ناحية أخرى، كان يحصل المدانون على التعليم الابتدائي -إذا لم يحصلوا عليه- ويتم تكليفهم بوظائف أو ورش في النجارة والحدادة والطباعة والميكانيكا والموسيقى وصناعة الأحذية.
وتم تخصيص البعض الآخر لتلبية احتياجات نزلاء السجون والبعض الآخر للعمل في الأشغال العامة للمدينة التي كانت أيضًا قيد الإنشاء.
خلف القضبان في سجن نهاية العالم
كان سجن أوشوايا يضم أنواعًا مختلفة من النزلاء، بدءًا من المجرمين المتكررين وحتى المحتجزين لأسباب سياسية، ومن بينهم كايتانو سانتوس جودينو، المعروف باسم “الرجل ذو الأذنين” القصيرة (El petiso orejudo)، وهو شاب مختل عقليا ارتكب أول جرائم قتل متسلسلة موثقة في الأرجنتين، وهيكتور خوسيه كامبورا، وهو سياسي اعتقل خلال دكتاتورية إدواردو لوناردي، في عام 1955، والذي تم انتخابه كرئيس في العقود اللاحقة.
وكان من بينهم أيضًا سيمون رادويتزكي، وهو فوضوي أوكراني حكم عليه بالسجن مدى الحياة لقتله قائد شرطة في عام 1909.
وردًا على ذلك، تلقى رادويتسكي معاملة غير إنسانية أثناء احتجازه، وبمساعدة مجموعته السياسية، كان واحدًا من القلائل الذين تمكنوا من الفرار، لأنه تم العثور على معظمهم ميتًا من البرد، وعلى الرغم من أنه تم القبض عليه مرة أخرى والعفو عنه لاحقًا من قبل الرئيس هيبوليتو يريغوين في عام 1930.
وبالإضافة إلى ذلك، تم إرسال العديد من قادة النقابات وأعضاء الاتحاد المدني الراديكالي، وهو حزب سياسي حمل السلاح ضد حكومات ما يسمى بالعقد السيئ السمعة، إلى السجن، حيث تعرضوا للتعذيب والمعاملة الوحشية.
سجن أوشوايا.. إرث العدالة
لعب سجن أوشوايا دورًا مهمًا في اقتصاد المدينة حتى إغلاقه بأمر من الرئيس خوان دومينغو بيرون، في 21 مارس 1947، لأسباب إنسانية.
وقد أصبحت الأرض والمباني امتدادًا لقاعدة أوشوايا البحرية حتى عام 1994، عندما تم إنشاء متحفين في الموقع، متحف بريسيديو ومتحف أوشوايا البحري، وهو أول متحف مخصص للفن في تييرا ديل فويغو والذي يضم اليوم نماذج بحرية وأعمالًا متعلقة بالبحرية.
وعلى الرغم من ماضيه المظلم، أصبح سجن أوشوايا اليوم مكانًا ذا قيمة تاريخية وثقافية يسعى إلى تذكير الأجيال الحالية بأهمية العدالة وحقوق الإنسان، حتى في أبعد الأماكن في العالم.
أقرأ أيضاً.. “بتراء الأندلس”.. تطابق في جمالها نظيرتها الأردنية