شخصيات

أسرار الجاسوسية.. العميل المزدوج الذي هزّ الغرب وكشف أسراره للسوفيت

محمد السيد

عميل بريطاني ابن عميل بريطاني لكن الفرق بينهما كبير، فالأب مخلص لبلده والإبن خائن وشيوعي حتى النخاع، إنه كيم فيلبي أحد أهم جواسيس الحرب الباردة والذي كان انكشاف أمره في الستينات بمثابة صفعة مدوية للمخابرات البريطانية، ولكن الغرابة والخطورة في سيرة فيلبي هي الأحداث التي سوف نسردها في هذه المقالة والتي جعلت قصة فيلبي تختلف كثيرا عن سائر قصص وروايات الجاسوسية.

مولد كيم فيلبي ونشأته التي أثرت فيه

ولد (هارولد أدريان) المعروف باسم (كيم فيلبي) عام 1912 في الهند، وهو ابن الجاسوس البريطاني جون فيلبي الذي عمل كضابط بالجيش البريطاني ثم دبلوماسي ومؤلف استشراقي، وقد تركه والده مع والدته وانقطع عنهم في مهمة طويلة بالمملكة العربية السعودية، وبعد حصول كيم على الثانوية التحق بجامعة كامبريدج في انجلترا حيث أعجب بالفكر الشيوعي.

فيلبي في مرحلة الشباب
فيلبي في مرحلة الشباب

 في البداية انضم كيم إلى لجنة مساعدة الفارين من الفاشية النازية في النمسا التي كانت طريقه للعمل في جهاز المخابرات السوفيتي المعروف باسم الكي جي بي ،  حيث كان أحد خمسة طلاب أصبحوا عملاء لموسكو وعرفوا باسم (خماسية كامبريدج)، ومنذ ذلك الحين ارتبط أسماء هؤلاء الخمسة بالشيوعية، وقام الحزب الشيوعي بتجنيدهم استعدادا لممارسة مهام عملهم بالتجسس على إنجلترا، وكان هذا الاستعداد وليد الإرادة لديهم في سنواتهم الأولى في الجامعة.

نهاية مرحلة التعليم واحتراف الجاسوسية

وبعد التخرج من الجامعة بحث فيلبي عن عمل بمجال الصحافة، وعندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية حصل فيلبي على فرصة عمل كمراسل لصحيفة لندن وهي وكالة صحفية صغيرة لتغطية الحرب حيث كان عمله لصالح الجريدة هو الهدف الظاهر للعلن، ولكنه في الواقع كان قد أرسل إلى إسبانيا لصالح السوفيت حيث قام العميل المزدوج جاي بورجس بتجنيده داخل المخابرات البريطانية لصالح السوفيت للتجسس على الثوار الإسبان ضد الجمهوريين.

 وفي عام أربعين عاد فيلبي إلى بريطانيا وعرض خدماته على الاستخبارات البريطانية التي وافقت على الفور نظرا لمهارته الملحوظة، ومنذ ذلك الحين أبدى فيلبي كفاءة ملحوظة في عمله وتأدية مهامه المكلف بها، كما أن مهارته لفتت نظر رؤساءه، لكن مازالت حقيقته لم تلفت نظرهم إلى الآن.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية اقترح فيلبي إنشاء مكتب مقاومة للشيوعية داخل المخابرات البريطانية، وبالفعل تمت الموافقة على خطط فيلبي، وكان مكتبه عبارة عن طابق واحد فوق مكتب خدمات العمليات السرية الأمريكية الذي ضم أشهر رجال الاستخبارات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية والذين كان يراهم باستمرار داخل المبنى حتى توطدت الصداقة بينهم.

وفي عام 1949 أصبح فيلبي ضابط الاتصال بين المخابرات البريطانية والامريكية وسرعان ما قام بإرسال التفاصيل الدقيقة إلى موسكو ومنها بيانات غاية في السرية عن الأبحاث النووية التي يقوم بها حلف الناتو، كما قام باكتشاف عدد من العملاء الأمريكان والبريطانيين للتجسس على السوفيت، حيث اُعتقل بعضهم وتمت تصفية البعض الآخر، وكان من ضمن هؤلاء العميلين المزدوجين بُرجَس ودونالد ماكلين، كما كشف فيلبي للإتحاد السوفيتي عن خطط الحلفاء لإرسال عصابات مسلحة مناهضة للشيوعية إلى المانيا.

وعندما حاوطت الشكوك العميلين المزدوجين بُرجَس ودونالد ماكلين من أنهما محل شك قام فيلبي بتحذيرهما وبالتالي هرب الرجلان إلى الإتحاد السوفيتي في عام 1951، وفي تلك اللحظة حامت الشكوك حول فيلبي فتم التحقيق معه، لكن لم يثبت عليه أي اتهام.

وظل فيلبي لفترة يمارس مهام عمله في الخفاء المعتاد إلى أن نجح جاسوس تركي يدعى أحمدوف أغا في تقديم معلومات للمخابرات الأمريكية أثارت الشكوك حول عمالة فيلبي للسوفيت، وعندئذ خضع لاستجواب طويل أمام المخابرات البريطانية، لكنه أنكر أي اتصالات له مع السوفيت، وكبادرة حسن نية لإبعاد الشبهات قدم فيلبي استقالته من المخابرات البريطانية وعمل لفترة بتجارة العقارات.

 إلا أن دفاع عدد من كبار المسئولين عنه ومنهم رئيس الوزراء البريطاني نفسه الذي قال عن فيلبي إنه مواطن بريطاني صالح خدم بلده ببطولة قد أعاد له كرامته المزيفة من جديد، وبالتالي عاد فيلبي إلى جهاز الاستخبارات ولكن من موقع اخر، ويفسر فيلبي الأمر في مذكراته بأن الاستخبارات البريطانية أخفت هويته حتى لا تكشف عن مدى سذاجة أعضائها الذين تم خداعهم.

وبعد عودته من جديد تم تكليفه بمهام سرية تحت غطاء عمل صحفي كمراسل في بيروت، وقد قيل أن من بين تلك المهام هي التجسس على والده الذي كان قد بدأ حياة جديدة كمستشار للملك عبدالعزيز آل سعود بعد أن أسلم وتزوج من سيدة سعودية وأصبح اسمه الشيخ عبدالله.

والد فيلبي بعد دخوله في الإسلام
والد فيلبي بعد أن أشهر إسلامه

فيلبي يمارس الجاسوسية المشروعة

أما القشة التي قصمت ظهر البعير هو ذلك العميل السوفيتي ويدعى (تولي جوليستن) والذي اعتقلته المخابرات البريطانية في عام 1962، حيث اعترف جوليستن بتجنيد السوفيت للعميل فيلبي والذي كان مازال في مهمته السرية في بيروت.

وعلى الفور كلفت الاستخبارات البريطانية نيكولاس إليوت الذي كان صديقا حميما له بالإنتقال إلى بيروت في يناير من العام 1963، حيث كان إليوت يحمل وعدا من الاستخبارات البريطانية بالعفو عن فيلبي مقابل إمدادها بأسماء كافة العملاء الذين جندهم والوثائق السرية التي تم تهريبها بالإضافة إلى أبرز المسؤلين في الكي جي بي الذين على تواصل مباشر معه.

لكن مهمة إليوت باءت بالفشل، إذ أن الكي جي بي قد علم بالأمر قبل وصوله إلى بيروت وبالتالي سارع الكي جي بي في تهريب فيلبي، فبينما كانت زوجته في تلك الليلة تنتظره في حفل عشاء داخل بيروت، اتجه فيلبي هاربا عبر مرفأ في ميناء بيروت ثم استقل سفينة متجهة إلى ميناء أوديسا الروسي.

فيلبي متخفي في زي امرأة
فيلبي وهو متخفي في زي إمرأة

وهناك استكمل فيلبي مهام الخيانة التي يصفها بالمشروعة على حد قوله في كتابه الذي أصدره بعنوان “نضالي السري” والذي يعتبر من أشهر قصص وروايات الجاسوسية، معتبرًا أن ماقام به يدعوه دائما للفخر، فهو لم يكن أبدا يرى نفسه خائنًا أو جاسوسًا حيث أكد ذلك في مذكراته قائلا “حتى تخون يجب أن تكون منتميًا أولا، وأنا لم أنتمي أبدًا لهذا النظام المنافق”.

ويتابع فيلبي خلال مذكراته : “لقد انضممت إلى المخابرات السوفيتية كما ينضم المرء إلى الجيش، وكثيرًا ما كنت أطيع الأوامر رغم اقتناعي بأنها كانت خاطئة”.

وفي موسكو تابع مهام وظيفته وحصل في النهاية على رتبة عقيد في جهاز المخابرات السوفيتية، كما مُنح لقب جنرال وتقلد وسام لينين الذي كان يُظهره بكل فخر لأصدقائه البريطانيين الذين كانوا يزورون موسكو بين الحين والآخر، كما أن فيلبي لم يشعر بالأسف على ذلك ابدا، بل على العكس كان دائما يفتخر بالسنوات التي قضاها في العمل لدى السوفيت ومهارته في خداع أبناء وطنه لوقت طويل.

توفي فيلبي في الحادي عشر من مايو عام 1988 في موسكو حيث دُفن رفاته في وداع يليق برجل خدم الإتحاد السوفيتي بكل إخلاص على مدى خمسة وثلاثين عاما، وكان مصدرًا هامًا للمعلومات التي خدمت السوفيت في الحرب الباردة.

وبعد وفاته أقامت موسكو معرضًا جديدًا يحتوي على بعض مقتنيات فيلبي الشخصية، بالإضافة إلى جزء بسيط من الوثائق السرية العديدة التي نقلها إلى مساعديه السوفيت خلال 30 عامًا من الجاسوسية، ويحمل المعرض عنوان “كيم فيلبي: عمله الاستخباراتي وحياته الشخصية” حيث تعود معظم الوثائق إلى عام 1944 وهي عبارة عن برقيات أرسلها دبلوماسيون إيطاليون أو يابانيون أو ألمان قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها والتي اعترضتها المخابرات البريطانية.

كما قامت موسكو بإصدار طوابع تذكارية تقديرا لخدماته الكبيرة التي قدمها للسوفيت.

طوابع تحمل صوره أصدرها الاتحاد السوفيتي
طوابع تذكارية تحمل صورة فيلبي

فيلبي أيضا من العملاء القلائل الذين لم تستطع بريطانيا الظفر بهم سواء بالإعتقال أو بالتصفية، مما يدل على ذكائه الخارق بالإضافة إلى ثقة السوفيت المطلقة فيه، وربما كانت العوامل السابقة هي السبب التي جعلت حقا من فيلبي أخطر رجل مخابرات ورد ذكره في قصص وروايات الجاسوسية خلال القرن العشرين.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *