إيمان محمود خليفة
عين زبيدة هي شبكة مائية تتميز بتاريخها العريق الممتد لأكثر من 1200 سنة في خدمة سقاية حجاج بيت الله الحرام وأهل مكة، وتمتد عين زبيدة من وادي نعمان شرق مكة إلى الطائف، وتمتد قنواتها إلى منطقة المشاعر المقدسة.
من هي زبيدة؟
زبيدة بنت جعفر ابن أبي جعفر المنصور العباسية الهاشمية، زوجة هارون الرشيد وابنة عمه، عُرفت بالورع ورجاحة العقل، واشتهرت وبحبها الشديد لعمل الخير، والبر بالفقراء والمساكين وإنفاق الغالي والنفيس ابتغاءً لوجه الله.
وقد أصرت السيدة زبيدة على إنشاء عين وذلك على الرغم من التكلفة الباهظة التي أخبرها بها المهندسون المسؤولون عن المشروع، وقد كان جوابها عليهم أنها ستقوم بإنشاء العين حتى لو كلفتها ضربة الفأس دينارا، وقد بلغت تكلفة المشروع حوالي مليون وسبعمائة ألف دينار ذهب أي ما يعادل حوالي 5950 كيلو جرامًا من الذهب، كما أنها خصصت أوقافًا لتكون موردًا لصيانة العين بلغ ريعها 30 ألف دينار ذهب سنويًا.
سبب تسمية عين زبيدة
تعد مكة المكرمة من أفقر المناطق المائية بالمنطقة العربية وذلك لعدم وجود أي مصدر للمياه الجارية بالقرب منها، ولذلك حاول الكثير من الخلفاء والأمراء على مر السنين بالبحث في أساليب لتوفير المياه في مكة، وكان من بينهم السيدة زبيدة وذلك أثناء أدائها لمناسك الحج عام 186 هجرية، حين رأت ما يعانيه الحجاج من مشقة للحصول على الماء والتي تدفعهم لحمل المياه لأوقات طويلة وارتفاع تكلفة الحصول على المياه في الأراضي المقدسة، ولذلك عزمت على إنشاء هذه العين للتيسير على الحجاج وإمداد أهل مكة بالماء، وأنفقت السيدة زبيدة الكثير من أموالها وجواهرها لتوفر للحجاج المياه العذبة، ولذلك سميت العين “عين زبيدة”.
إنشاء عين زبيدة
أمرت السيدة زبيدة بحفر العين لتتصل بمساقط المطر، واشترت جميع الأراضي في الوادي، وأمرت بأن تشق قناة في الجبال لمياه الأمطار، وذلك بعد أن كلفت المهندسين والحرفيين المارة بالبحث لحل مشكلة الماء في مكة وبعد دراسة مطولة توصل المهندسون أنهم يمكنهم الاستفادة من العيون الموجودة خارج الحرم مثل عين حنين وعين وادي النعمان وذلك بشق الجبال وحفر القنوات فيها ووضع فتحات لقناة فرعية في المواضع المتوقع تجمع مياه السيول فيها لتزيد من كمية المياه المتدفقة لمكة المكرمة عبر القناة الرئيسية.
كما أنهم صمموا هذا المشروع العملاق بطرق فنية متطورة تبين التطور والتقدم في العمارة والهندسة في عصر الدولة العباسية، وظهرت مهارة العاملين الذين استطاعوا شق قنوات لسحب المياه عبر تلك المسافة الطويلة وعبر مرتفعات ومنخفضات جبلية وأودية وصحار، وعملوا المناسيب المناسبة لمجرى العين والقنوات بالحجر والجص حتى استطاعت المياه الانسياب عبر هذه القنوات والمضخات بكل سهولة ويسر حتى وصلت إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة مرورًا بمناطق المشاعر المقدسة منى وعرفات ومزدلفة.
ولا تزال آثار القنوات المائية والخرزات (أي غرف التفتيش والتي يبلغ عددها 132 خرزة) قائمة حتى وقتنا الحالي في سفوح الجبال بالرغم من مرور ما يزيد عن 12 قرنًا على إنشائها، كما كانت مياه عين زبيدة تستخدم لسقي المزارع والحقول التي تقع على مسارها وتعد العين أيضًا مزارًا سياحيًا مميزًا، خاصةً لأهالي مكة والطائف.
مسارات العين
يبلغ طول مسارات العين في محيط المناسك بمكة حوالي 30 كيلو مترًا، ويبلغ طول القناة 26 كيلومترًا وتتكون من جزئين: جزء منها غير ظاهر تم إنشاؤه تحت سطح الأرض ويبلغ طوله 16.35 كيلومترًا، والجزء الآخر ظاهر فوق سطح الأرض ويبلغ طوله 9.47 كيلومترات، ويبلغ عمق بعض الخرزات في العين حوالي 40 مترًا.
وهناك نقش كتابي على بركة زبيدة التي بالمعلاة ذكر فيه “بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، بركة من الله مما أمرت به أم جعفر بنت أبي الفضل جعفر بن أمير المؤمنين المنصور- رضى الله عن أمير المؤمنين- بإجراء هذه العيون سقاية لحجاج بيت الله وأهل حرمه، طلب ثواب الله وقربة إليه على يدي ياسر خادمها ومولاها سنة – 194 – أربع وتسعين ومائة.
جفاف عين زبيدة
استمرت هذه العين في تزويد مكة والحجاج بالماء اللازم لأكثر من 1200 سنة إلى أن شحت المياه فيها بسبب ندرة الأمطار، وبدأ منسوب مياه هذه العين بالانخفاض قبل أكثر من عشرين عامًا حتى جف ماؤها واندثرت أغلب قنواتها بسبب التطور العمراني في مكة المكرمة، واستبدلت بمياه البحار الناتجة عن محطات التحلية الضخمة، وأصبحت عين زبيدة شاهدًا تاريخيًا على الحضارة الإسلامية، كما أنها خلدت ذكر هذه المرأة العظيمة التي كان هدفها سقاية الحجاج.
اقرأ أيضًا… رابعة العدوية … شاعرة المحبة الإلهية الزاهدة المتصوفة …إمامة العاشقين والمحزونين