محمد أحمد كيلاني
جاء نص في نقش يعود للقرن الثاني عشر قبل الميلاد يقول : “لقد جاؤوا في سفنهم الحربية ولم يتمكن أحد من مواجهتهم”، وقد وجد هذا النص في مدينة تانيس المصرية، وبعد تدمير جميع حضارات البحر الأبيض المتوسط تقريبًا، طاردوا مصر رمسيس الثالث، فمن هم شعوب البحر ومن أين جاؤوا؟.
شعوب البحر
في الألفية الثانية قبل الميلاد ولمدة قرن تقريبًا، قامت مجموعة من المحاربين القادمين من البحر بملء البحر الأبيض المتوسط بالخراب والموت، وكانت المقاومة بلا جدوى، وسقطت القوى العظمى في ذلك الوقت، مثل، الحثيين، والميسينيين والكنعانيين، والقبارصة، الواحدة تلو الأخرى.
ولم تستطع أي أرض أن تقاوم أسلحتهم، فدمروا أهلها وبقيت أرضهم كما لم تكن من قبل، ووضعوا أيديهم على أراضي دائرة الأرض كلها، بأمان مطمئنين.
وهكذا يمكننا أن نقرأ على جدران المعبد الجنائزي لرمسيس الثالث بمدينة هابو، “لقد دمروا الإمبراطورية الحيثية ودمروا ونهبوا عاصمتها حاتوسا، كما هاجموا سوريا وكنعان، حيث أحرقت العديد من المدن، وكذلك قبرص وعاصمتها، التي دمرت أيضًا”.
أصل مجهول لشعوب البحر المتوحشين
والآن لا يُعرف سوى القليل جدًا عن هؤلاء الرجال العنيفين، ناهيك عن تقاليدهم أو ثقافتهم، والمجموعات الست التي كونتهم لم تترك أي نقوش خاصة بهم، والمعلومات القليلة التي لدينا تأتي من الحضارات التي حاربت ضدهم، وخاصة القدماء المصريين.
وكان عالم المصريات إيمانويل دي روج، في عام 1855، هو من استخدم مصطلح أهل البحر للإشارة إلى مجموعة من القبائل التي تم تمثيلها في نقش من عصر رمسيس الثالث، يؤرخ بنهاية عصر الدولة الحديثة، أي بين عامي 1184 و1153 ق.م، بمدينة هابو.
وفي وقت لاحق، خلص عالم المصريات جاستون ماسبيرو، بناءً على نظرية دي روج، إلى أنها كانت “مكونات هجرة عظيمة انتقلت من بحر إيجه إلى شرق البحر الأبيض المتوسط”.
وهناك العديد من الفرضيات حول أصلهم، ويعتبرهم البعض شعوبًا مائلة أو شعوب أوروبا الوسطى، بل إن أحد هذه الشعوب، وهو الشيكليش، يعود أصله إلى صقلية.
البحث متواصل وراء أصل شعوب البحر
يقول باحثون آخرون إنهم جاؤوا من المحيط الأطلسي وبحر الشمال وسواحل البلطيق، أو أنهم من أصل سامي، ربما من الكنعانيين، ووفقًا لهذه النظرية، المستندة إلى التقارب اللغوي، فإن خمسة من أسباط إسرائيل الاثني عشر ينحدرون من شعوب البحر.
وهم الفلسطينيون، وأشير من الوشيش، ودان من الدانيين، ويساكر من الشكليش، ومنسى، من الثيكرز.
وهناك أيضًا من يعتقد أنهم كانوا يونانيين مهاجرين، أطلق عليهم الآخيون اسم “أكويش”، على الرغم من أن آخرين يعتقدون أنهم من الممكن أن يكونوا من أطلق عليهم الحيثيون اسم “أهياوا”.
وفي هذه الفرضية الأخيرة، سيكون سكان البحر مكونين من الميسينيين، ولكن لا يزال هناك المزيد، ويقول آخرون أن لهم تقاليد يمكن ربطها بشكل واضح بكريت، وكان الثيكرز قد غادروا الجزيرة ليستقروا في منطقة الأناضول في تركيا حاليًا، وبالطبع هناك من يتحدث عن أحصنة طروادة والإتروسكان وحتى المينويين.
على أية حال، فإن أصلهم غامض مثل الأسباب التي دفعتهم إلى نهب شرق البحر الأبيض المتوسط بالدم والنار، ويشير بعض المؤرخين إلى أن سبب هجراتهم كان المجاعات أو الكوارث الطبيعية في أماكنهم الأصلية.
لم يستطيعوا إحتلال مصر
ومهما كانت، فقد قضت على جميع حضارات البحر الأبيض المتوسط تقريبًا، وذلك في منتصف القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وقد كان الهدف الوحيد الذي تركوه هو احتلال مصر في عهد رمسيس الثالث.
ووفقًا للنقوش التي عثر عليها في المعبد الجنائزي لمدينة هابو، فإن المعركة الشرسة وقعت في مكان ما شمال العاصمة على نهر النيل، وقد هاجم الجنود المصريون المسلحون بالرماح والأقواس والسيوف العدو من سطح سفنهم، فدمروهم شيئًا فشيئًا وأجبروهم على التوجه إلى الساحل، حيث كان الرماة المتمركزون على الضفاف ينتظرون القضاء عليهم.
ويعتبر النصر الذي تحقق في معركة الدلتا (1177 قبل الميلاد)، وهي أول معركة بحرية مسجلة في التاريخ، الهزيمة الحاسمة لشعوب البحر، لكن مصر لم تعد كما كانت مرة أخرى، وكان هذا النصر بمثابة بداية تراجعها وسقوط آخر الإمبراطوريات القديمة العظيمة.
واختفى سكان البحر من التاريخ، تاركين وراءهم أثرًا من الغموض لا يزال موجودًا حتى اليوم، “قلبه وروحه مستهلكان إلى الأبد”، هكذا يقرأ أحد النصوص الموجودة على جدران المعبد الجنائزي لرمسيس الثالث.
أقرأ أيضاً.. المومياء الذهبية.. الأقدم في تاريخ مصر