تاريخ

العهد الثاني للبشرية.. قصة سفينة نوح والطوفان العظيم

نشوى الحسيني

تاريخ طويل يعود إلى آلاف السنين، معجزات تتجلى فيها قدرة الخالق سبحانه وتعالى، كلما أبحرت في معرفتها كلما زاد عقلك حيرة واندهاش، فتقف أمامها تارةً صامتًا تتأمل، وتارةً باحثًا تتفكر، وما بين التأمل والبحث نحاول أن نصل إلى بعض الحقائق حول تلك المعجزات، وحديثنا في هذا الموضوع عن طوفان وسفينة نوح عليه السلام، المعجزة التي لم تكن كباقي المعجزات، فهذا الحدث يقف حدًا بين عهدين كفاصل زمني يمحو ما قبله من تاريخ ليبدأ تاريخ جديد وعهد جديد للبشرية يعرف بـ “عهد ما بعد الطوفان” أو “العهد الثاني للبشرية.”

طوفان نوح.. كيف ذكره التاريخ

على مر التاريخ، نرى العديد من المعجزات ولكن لكل منا معتقداته، وكل إنسان يرى المعجزات حسب تصوره وحسب ديانته، فمنّا من يؤمن بها ويرى أنها معجزة من الله، ومنا من يرجعها إلى أسباب علمية وظواهر كونية، فقليل جدًا ما اتفق البشر على شيء، ولكن معجزة نوح واضحة جلية، وهي معجزة يتواتر ذكرها في جميع الثقافات والحضارات والأديان السماوية وغير السماوية، فذكرت في القرآن الكريم والإنجيل، وعرفت عند اليهود في الكتاب المقدس في سفر التكوين بـ “سفينة الخلاص”، كذلك ذُكرت عند الهندوس، حضارات الإغريق، وحضارة بلاد الرافدين، وعرفت بملحمة جلجامش في الحضارة السومرية.

فقد أحصى العالم النمساوي هانز تشاندلر (Hans Schindler Betndy) أكثر من 500 قصة وأسطورة تاريخية تتحدث عن الطوفان، وإن كانت تختلف في تفاصيلها إلا أن مجملها متشابه إلى حد كبير، وهي أن الله غضب على أهل الأرض بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، فأتى بطوفان عظيم ليقضي بهم إلا عبدًا صالحًا أنقذه الله هو وأهله ومن معه، وبدأت به الحياة وإعمار الأرض مرة أخرى.

طوفان نوح.. كيف ذكر في الأديان السماوية

كان بين آدم ونوح عشر قرون جميع من في الأرض كانوا على التوحيد، ولكن شيئًا فشيئًا وصل الناس إلى الشرك بالله. فكيف حدث ذلك؟ يذكر التاريخ أن خمسة رجال من أتباع سيدنا إدريس وهم (ود، سواع، يغوث، يعوق، ونسرا) كانوا يذكرون الناس دائمًا بالأعمال الصالحة وعبادة الله، وعندما توفى هؤلاء الرجال الخمسة، ظهر إبليس على هيئة بشر يقترح أن نبني تماثيل لتخليد ذكرى الرجال الصالحين.

وقد لاقت الفكرة إعجاب واستحسان الناس آنذاك، وطبقوها بالفعل وشرعوا في بناء التماثيل بمساعدة الشيطان نفسه، ولكن كانت بالنسبة لهم مجرد أحجار، وخلفهم جيل يعظم تلك الأحجار ويتبارك بها، وجيل بعد جيل استطاع الشيطان السيطرة على عقولهم وجعلوا من تلك الأحجار آلهة يعبدونها مع الله، ومن مجرد فكرة شيطانية انتهى بهم المطاف إلى الشرك.

كذلك هي خطوات الشيطان، لا يأتيك يأمرك بالكفر ولكن يأخذك في خطواته حتى تصل إلى مراده دون أن تشعر، فأرسل الله نبيه نوح يدعوهم إلى عبادة الله، ويذكرهم أن الله هو الواحد الأحد، ويقال إنه بدأ الدعوة وهو في عمر 470 عامًا، ومكث نبي الله في قومه يدعوهم لعبادة الله لأكثر من 900 عام، ولم يصدقه ويتبعه إلا 80 شخصًا على أكثر الأقوال المذكورة تاريخيًا.

ولقي نوح وأتباعه من قومهم عناء شديد وتجاهل وسخرية، وفي النهاية قاطعوهم تمامًا، ولكن نوح وأتباعه تمسكوا بالصبر حتى جاء أمر الله إلى نوح أن اهجر قومك وابدأ يا نوح بصناعة الفلك، وبدأها من مراحلها الأولى من زراعة الأشجار وأخذ خشبها وصناعة السفينة، تلك السفينة التي صنعت بهندسة إلهية بوحي مباشر لسيدنا نوح.

مواصفات سفينة نوح وبداية الطوفان

استغرق بناء السفينة أكثر من 80 عامًا، وكانت سفينة ضخمة، عملاقة، حادة من الطرفين تحاكي السفن الحديثة التي نراها الآن، طولها 140 مترًا، عرضها 23 مترًا، وارتفاعها 13.5 مترًا، ومكونة من ثلاث طوابق ولها غطاء فوقها يغطيها بالكامل لحمايتها من ماء المطر حتى أنها حين تغطى تصبح أشبه بالغواصة، وهذه المواصفات ذكرت نصًا في الكتاب المقدس لليهود وأقر بها بعض المؤرخين والعلماء.

وبعد إتمام البناء، أعطى الله نوح إشارة عندما يراها وجب عليه أن يتجه إلى السفينة، وهي أن يفور التنور، والمقصود بفوران التنور هو أن تخرج المياه من عيون النار التي يُخبز بها الخبز، وبالفعل ظهرت الإشارة واتجه نبي الله إلى السفينة هو وأتباعه، وصعدوا إليها إلا زوجته وابنه كنعان، فقد عصوا أمر الله فهلكوا مع من هلك.

وبدأت المياه تنفجر من كل مكان في الأرض وفتحت أبواب السماء بأمطار منهمة، فالتقى ماء السماء بماء الأرض بأمر الله، فكان الموج كالجبال، وكان نوح وأتباعه ينظرون إلى الأرض وهلاك الظالمين في مشهد مهيب خارج حدود قدرات العقل والمنطق، فكيف لهذه الأرض بأكملها أن تتحول إلى محيط شاسع؟ تنظر من حولك لا ترى إلا المياه. أين اليابسة؟ اختفت، أين من كانوا عليها؟ هلكوا، وبذلك يبدأ عهد جديد ببشر آخرين، جميعهم من نسل نوح وأولاده، لذلك يُعرف نوح بـ “أبو البشر الثاني.”

أين رست سفينة نوح وأين هي الآن؟

استمر الطوفان لفترة 40 يومًا، ويقال أيضًا 180 يومًا، وظلت السفينة عائمة في مياه الطوفان حتى جاء أمر الله بأن تقلع السماء عن المطر وتبلع الأرض ماءها حتى غاض الماء، واستوت السفينة على جبل الجودي، وليبقى السؤال الذي حير العلماء والباحثين وكل من اهتم بأمر السفينة: أين الجبل الذي رست عليه؟ لقد ظهرت العديد من الأقوال والادعاءات حول هذا الجبل، ليس في وقتنا الحالي فقط، بل منذ العصور الوسطى مرورًا بالدولة العثمانية.

فقد حاول مكتشفوها وعلماؤها العثور على السفينة ولكن دون الوصول لأي نتيجة، وفي العصور الحديثة، قيل إنها فوق جبل في اليمن ويعرف هناك بجبل الجودي وتظهر أعلاه مجسم سفينة بالفعل، ومنهم من قال إنها في الجزيرة العربية، وقيل أيضًا إنها في إيران، ولكل منهم أسبابه في ادعاءاته، وتقول آخر الأبحاث أن السفينة موجودة على قمة جبل أرارات في تركيا، حيث أظهرت الصور الحديثة بالأقمار الصناعية نتوءات في قمة الجبل.

وقد تعهد رجل أعمال ثري مولع بقصة السفينة يُدعى دانيال مك كيفرن بمبلغ 900,000 دولار لمن يعثر على مكان السفينة، ولكن دون جدوى، وفي عام 2004، ادعت إحدى البعثات الاستكشافية أنهم عثروا على مكان السفينة وقدموا مجموعة من الصور والمخططات التي تثبت صحة أقوالهم، ولكنها رُفضت من المجتمع العلمي، ولا يزال البحث عن السفينة مستمرًا، فهل يستطيع أحد أن يكتشف مكانها ويثبت صحة اكتشافه؟

وهكذا، يظل مكان السفينة لغزًا إلى وقتنا الحالي، يحير العلماء والباحثين، وآية متروكة للبشر شاهدة على قدرة الله عز وجل وشاهدة أيضًا على ضعف قدرات وإمكانيات البشر مهما تطوروا ووصلوا من تقدم وعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *