محمد السيد
هو طبيب وكاتب وزعيم حرب العصابات، رجل عاش ومات من أجل الثورة ويحلم بوحدة أمريكا الجنوبية، أجيال قد لا تعرف عنه أكثر من إسمه وصورته التي تتصدر مولات ومطاعم ومحلات كبرى في معظم دول العالم، إنه أرنستو جيفارا دي لاسيرنا والذي يعتبر واحد من أهم الشخصيات في القرن العشرين وأهم الشخصيات الثورية عبر التاريخ المعاصر كله.
نشأة أرنستو جيفارا والتأثر بالظروف المحيطة
ولد جيفارا في الرابع عشر من مايو عام 1928 بالأرجنتين، ودرس جيفارا الطب في جامعة بوينس آيرس بالأرجنتين وتخرج عام 1953، وفي السنة الأخيرة قبل التخرج قام بجولة حول أميركا الجنوبية مع أحد أصدقائه على متن دراجة نارية ، وكونت تلك الرحلة شخصيته وإحساسه بضرورة العمل على وحدة أمريكا الجنوبية.
وكان الفتى الرحالة مصابًا بالربو فلم يلتحق بالخدمة العسكرية، وربما كان ذلك من حسن حظه من أجل أن يستأنف رحلة الاستكشاف والجولات في دول أميركا الجنوبية، حيث سافر إلى المكسيك وهناك التقى هناك ب راؤول كاسترو شقيق فيدل كاسترو الذي سيصبح فيما بعد رفيق عمره وأسطورة ثورية أخرى.
اللقاء الأول وانطلاق الرحلة الثورية
كان الثوار في كوبا يجهزون هناك للثورة وينتظرون خروج فيدل كاسترو العقل المدبر وقائدهم من سجنه في كوبا، وما أن خرج كاسترو من السجن حتى انضم إليه جيفارا وبدأوا تحضيرهم للثورة الكوبية.
وبواسطة خطة وضعها أرنستو جيفارا بمهارة شديدة تعتمد على النزول من جبال سيرا باتجاه العاصمة الكوبية تمكن الثوار من دخول العاصمة هافانا في يناير عام 1959 على رأس ثلاثمائة مقاتل ليكتسح رجال المقاومة برئاسة فيدل كاسترو العاصمة هافانا نفسها ويتمكنوا من إسقاط نظام الحكم الديكتاتوري العسكري.
وفي هذه المعركة وما تلاها من معارك مختلفة برز إسم اتشي جيفارا كقائد ومقاتل شرس جدًا لا بهاب الموت، كما عرف عنه سرعة البديهة وحسن التصرف في أشد المواقف والأزمات، ونتيجة لذلك أصبح جيفارا قائدا برتبة عقيد وشريك فيدل كاسترو في قيادة الثورة.
وفي أعقاب الثورة الكوبية قام جيفارا بأداء عدد من الأدوار الرئيسية للحكومة الجديدة، حيث تولى منصب مندوب كوبا لدى الهيئات الدولية الكبرى ومنصب رئيس البنك المركزي، كما تولى منصب مسئول التخطيط ومنصب وزير الصناعة، ولعل الواضح في تلك المناصب أن جميعها بعيدة عن مجال الطب الذي قام بدراسته، بل على العكس تماما فإنها ترتبط بالتجارة والصناعة بشكل كبير وهو ما يدل على تفتح عقليته وذكائه وقدرته على سرعة التعلم.
وخلال فترة عمله الحكومي قام بالتصدي بكل قوة لتدخلات الولايات المتحدة، فقرر تأميم جميع مصانع الدولة بالاتفاق مع كاسترو، فردت الولايات المتحدة تلك الضربة بتشديد الحصار التجاري والاقتصادي على كوبا وهو ما جعل الحكومة في كوبا تميل تدريجيًا نحو الجانب الشرقي لدى الاتحاد السوفيتي.
اعتزال جيفارا للسياسة والتفرغ للمد الثوري
تلك الحياة السياسية لم تستمر طويلًا بسبب المطاردات المستمرة من جانب المخابرات الأمريكية التي فشلت تمامًا في تعقبه او حتى تحديد مكانه، فعملت على نشر أخبار كثيرة عن مقتله لكي يخرج بنفسه و يرد لعل رده يساهم في تحديد مكانه، لكنه بالطبع لم يرد.
وفي تلك الأثناء أشاعت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أخبارًا كاذبة بأن جيفارا قد تمت تصفيته على يد زميله ورفيقه كاسترو، وهو ما اضطر كاسترو للكشف عن الغموض الذي أحاط باختفائه ، فأدلى بخطابه الشهير الذي ورد في بعض أجزائه التالي:
لدي هنا رسالة كتبت بخط اليد من الرفيق إرنستو جيفارا يقول فيها: أشعر أنني أتممت ما لدي من واجبات تربطني بالثورة الكوبية على أرضها، لهذا أستودعك وأستودع الرفاق وأستودع شعبك الذي أصبح شعبي، كما أتقدم رسميًا باستقالتي من قيادة الحزب ومن منصبي كوزير ومن رتبة القائد ومن جنسيتي الكوبية، فلم يعد يربطني شيء قانوني بكوبا.
أكدت الرسالة السابقة إصرار جيفارا على عدم العودة إلى كوبا بصفة رسمية، بل أكدت نيته أن يستكمل مسيرته كثائر يبحث عن ملاذ آمن بين الحين والآخر، ومنذ ذلك الحين انطلق الثائر يبحث عن قضية عالمية أخرى في محطة ثورية أخرى، وكانت تلك المحطة في وسط إفريقيا وبالتحديد في الكونغو كينشاسا.
ومع أن فكرته لم تلق صدى واسعًا لدى بعض القادة إلا أن جيفارا أصر على موقفه، ولكن التجربة الأفريقية فشلت لأسباب عديدة منها عدم تعاون رؤوس الثورة الأفارقة واختلاف المناخ واللغة، ولكن جيفارا لم يتوقف عند هذا الحد بل استكمل رحلته الثورية وعاد مجددًا إلى أمريكا الجنوبية وبالتحديد من بوليفيا مهد حضارة الإنكا.
هناك ظهر جيفارا قائدًا لثورة جديدة، ولم بكن مشروع جيفارا الثوري هو مجرد خلق حركة ثورية مسلحة في بوليفيا فقط لكن كان مشروعه الأهم والأكبرهو التحضير لمد صفوف الحركات التحررية في أمريكا اللاتينية كلها لمجابهة الهيمنة الأمريكية المستغلة لثروات دول القارة.
أرنستو جيفارا.. حصار مشدد ومقاومة باسلة
ومع بداية عام 1967 أصبح أرنستو جيفارا مع مقاتليه العشرين يواجهون بمفردهم قوات الجيش المدعمة بالسلاح الأميركي، حيث كانت المعارك تدور في غابات بوليفيا الإستوائية، لذلك قرر أن ينتظر قليلًا لبعض الوقت من أجل حشد القوى والعمل على تجنيد الفلاحين والهنود الحمر، ولكن شدة القتال وتسارع الوقت أجبره على خوض المعارك مبكرًا مع قلة من المحاربين.
تم إلقاء القبض على إثنين من مراسلي الثوار داخل بوليفيا، فاعترفوا تحت قسوة التعذيب أن جيفارا هو قائد الثوار في بوليفيا، فانتشر آلاف الجنود لتمشيط المناطق الوعرة بحثا عن أربعين رجلًا ضعيفًا وجائعًا هم كل من تبقى من الرجال مع جيفارا، وقد أدى ذلك إلى تشتت هؤلاء الرجال عن بعضهم داخل الأدغال قرابة أربعة أشهر.
و يوم 8أكتوبر 1967 وفي أحد وديان بوليفيا الضيقة هاجمت قوات الجيش البوليفي المكونة من 1500 فرد مجموعة جيفارا المكونة من 16 فرد، وظل أرنستو جيفارا ورفاقه يقاتلون 6 ساعات كاملة وهو شيء نادر الحدوث في حرب العصابات وفي منطقة صخرية وعرة، وظل جيفارا يقاتل بالرغم من موت جميع من كانوا معه في المجموعة لدرجة أنه قد أصيب في ساقه، وليس هذا فحسب لكن حتى بندقيته استهلكت تمامًا وسقطت منه خزانة مسدسه، وفي لحظة مفاجئة وجد القوات البوليفية فوق رأسه تحاصره في الوادي الضيق من كل مكان.
التشفي والانتقام قبل تنفيذ الإعدام
وفي صباح يوم التاسع من أكتوبر عام 1967 تم اقتياده استعدادًا لتنفيذ حكم الإعدام رميا بالرصاص داخل غابة “فالي جراندي” في قرية تدعى “هيجيرا”، ولكنه لم يكن مجرد مشهد إعدام رميًا بالرصاص فحسب.
كانت الأوامر الصادرة لظابط الصف المكلف بتلك المهمة بأن يطلق الرصاص من أعلى إلى اسفل تحت الخصر وعدم توجيه النيران إلى القلب أو الرأس مباشرة وذلك حتى تطول فترة احتضاره وذلك لرغبتهم في تعذيبه حتى وهو في لحظات الموت.
وبعد عدة طلقات في جسده تم إطلاق رصاصة في الجانب الأيسر من جسده فأنهت حياته، كما تم بتر يديه من أجل التعرف على البصمات الخاصة بهما، ورفضت السلطات البوليفية وقتها تسليم جثته لأخيه أو حتى تعريف أحد بمكانه او بمقبرته حتى لا تكون مزارًا للثوار من كل انحاء العالم.
كان جيفارا يؤمن بأن محاربة الظلم والقهر يجب ألا تخضع لأي معوقات جغرافية أو ثقافية، وهو ما دفعه للتنقل بين الدول المختلفة في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، ولكن يؤخذ عليه – بحسب تحليلات النقاد – اندفاعه وتهوره في بعض الأحيان، فالرجل الثائر ليس بالضرورة أن يكون حماسيًا بشكل كامل، ولكن يجب أن يتحلى بقدر من السياسة وبعد النظر، وربما كان ذلك هو ما جعله يسقط وحيدًا في نهاية رحلته في مشهد درامي حزين.