محمد أحمد كيلاني
اندلعت حرب الثلاثين عاماً في أوروبا الوسطى بين عامي 1618 و 1648، وكانت تلك الحرب التي خلفت وراءها أكبر معدل وفيات في التاريخ الأوروبي، وكان دافع الحرب الأول هو الاختلافات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، لكنها اكتسبت ملامح أخرى، بعد ذلك.
فقد تضمنت الدوافع السياسية، والتوسع الإقليمي، والمصالح الاقتصادية، وفي الوقت نفسه الهيمنة في أوروبا، وذلك ما دفع عدداً من البلدان، مثل فرنسا، وهولندا، والدنمارك، وإسبانيا للتدخل في الصراع.
أسباب حرب الثلاثين عاماً
في القرن السابع عشر، لم تكن هناك أراضي ألمانية مع وجود ممالك صغيرة تحت تأثير الإمبراطورية الرومانية المقدسة، بالإضافة إلى التشرذم السياسي والإقليمي، فقد كانت ألمانيا موقعًا للصراعات الدينية التي اندلعت مع الإصلاح البروتستانتي.
وظهرت هذه التوترات في النصف الأول من القرن السادس عشر، ثم افتقدت قوتها في النصف الثاني من القرن السادس عشر وبعدها استأنفت، مرة أخرى، بداية القرن السابع عشر.
في هذه الأثناء، وفي عهد “رودولفو الثاني”، عادت التوترات، ويرجع ذلك أساساً إلى أن الملك أو الإمبراطور المقدس حاول انتحال الكاثوليكية ليزيد القوة في إمبراطوريته، وقد استمرت هذه التوترات، وبدأ البروتستانتيون في القرن السابع عشر بتشكيل الإتحاد البروتستانتي، وكان عبارة عن مجموعة من المدن التي كان اهتمامها الأول هو الدفاع عن مُعتقدهُم الديني.
وقد استمر الاضطهاد ضد البروتستانت في عهد “ماتياس”، الذي تولى السلطة بعد وفاة رودولفو الثاني.
التوتر الديني الدافع الرئيسي لحرب الثلاثين عاماً
تبين أن هذا التوتر الديني كان شديداً للغاية في بعض الأماكن في الإمبراطورية المقدسة، مثل بوهيميا (التشيك الحالية)، وهناك، بدأ البروتستانت في المطالبة من “فرديناند الثاني”، ملك بويميا والملك المستقبلي للإمبراطورية المقدسة، باعتناق البروتستانتية، وقد كان فرديناند كاثوليكي، لأنه يقبع في التدرج الملكي تحت سلطة ماتياس.
فقد كان التنافس الديني مدفوعاً بالصعوبات الإقتصادية التي واجهتها بوهيميا، وفي 23 مايو 1618، غزت مجموعة من أتباع البروتستانتية البارزين قلعة براغ للمطالبة بممثلين عن الإمبراطور، مباشرة من أجل الحرية الدينية.
الدفاع عن براغ
لقد ساء الوضع بعد ذلك الغزو، وانتهى الأمر بأن النبلاء البروتستانت هاجموا ممثلي الإمبراطور، وعُرف هذا الحدث باسم الدفاع عن براغ، وعلى الفور، أعلنت بوهيميا أن فرديناند الثاني لم يَعُد الملك، وأن فريدريك الخامس، الكونت الذي حكم بالاتينات، إحدى المناطق التي شكلت الإمبراطورية المقدسة، هو الملك الجديد.
ويمكن إعتبار هذا الحدث على أنه المرحلة الأولى من حرب الثلاثين عاماً، وفي ذلك الوقت، كانت الحرب حدثاً داخلياً يتعلق بالنزاعات الدينية والداخلية على السلطة للإمبراطورية الرومانية الألمانية المقدسة.
وعلى مدار ثلاثين عاماً، قسم المؤرخون الصراع إلى أربع مراحل
مراحل حرب الثلاثين عاماً
استمرت حرب الثلاثين عاماً، كما يوحي من اسمها، لمدة ثلاثة عقود، فبدأت في عام 1618 وانتهت في عام 1648، وقد بدأ هذا الصراع بسبب الخلافات الدينية، داخل الإمبراطورية المقدسة، بين البروتستانت والكاثوليك على مدار عامين كما ذكرنا، واتسع الخلاف واكتسب دوافع أخرى معتمداً على مشاركة القوات الأجنبية.
فترة بوهيميا
بدأت هذه المرحلة من الحرب، عندما تمرد النبلاء البوهيميون على سلطة فرديناند الثاني، وفي هذه الأيام بدأت حرب الثلاثين عاما، فقد أعلن فرديناند الثاني، الذي تم انتخابه وقتها الإمبراطور المقدس، الحرب على المتمردين، وعرضت الدول الأجنبية الدعم للبروتستانت البوهيميين، لكن الانشقاق الداخلي بين اللوثريين والكالفينيين كان حائل دون ذلك.
وبالمثل، في نوفمبر 1620، هزم الكاثوليك البروتستانت بقيادة يوهان تسيركليس، وتمت الإطاحة بالبروتستانت من السلطة في بوهيميا، ومات الكثير منهم، وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم، وتم حظر البروتستانتية من المناطق الواقعة تحت سيطرة الإمبراطورية المقدسة، ومرر العرش البوهيمي ليحتله “آل هابسبورغ” بطريقة وراثية.
وبعد هذا الانتصار، بدأ كاثوليك الإمبراطورية المقدسة، بدعم من إسبانيا وبافاريا، الهجوم ضد بالاتينات، وهي منطقة كان بها العديد من البروتستانت، وتم طرد فريدريك الخامس بشكل نهائي، حيث كان يحتمي في هولندا، وبعد غزو بالاتينات، تم تسليم حكومة هذه المنطقة إلى ماكسيميليان الأول، وهو كاثوليكي وحليف للإمبراطورية المقدسة.
الفترة الدنماركية
تشير هذه الفترة إلى تدويل الصراع لأن التوسع الكاثوليكي الذي روجته الإمبراطورية المقدسة في الأراضي البروتستانتية، مثل بالاتينات، لفت انتباه بعض الدول البروتستانتية، مثل المقاطعات المتحدة والدنمارك والسويد، وتم تنبيه فرنسا أيضاً بشأن السيناريو، ولكن لأسباب أخرى، خَشت فرنسا من تقوية سلالة هابسبورغ.
وبمجرد أن حكموا إسبانيا والإمبراطورية المقدسة، بدأ الفرنسيون في تمويل الجماعات البروتستانتية حتى ينخرطوا في القتال ضد كاثوليك الإمبراطورية المقدسة، وكان هدفهم من ذلك هو تعزيز أو إضعاف السلالة المذكورة أعلاه، لذلك، قرر الملك الدنماركي “كريستيان الرابع”، بتمويل من فرنسا، الدخول في الصراع للدفاع عن البروتستانت.
وفشل التدخل الدنماركي، وقرر الإمبراطور فرديناند الثاني التقدم أكثر ضد المصالح البروتستانتية، محددًا أن الأراضي التي استولوا عليها بعد عام 1555 ستعاد إلى الكاثوليك.
وانسحب الملك الدنماركي من الحرب بموجب “معاهدة لوبيك”، التي حددت الحفاظ على الحدود الدنماركية قبل الحرب.
الفترة السويدية
ابتداءً من عام 1630، دخل السويديون الصراع، أيضاً، عن طريق التمويل الذي قدمه الفرنسيون، فقد كانت القوات السويدية التي غزت الإمبراطورية المقدسة بقيادة الملك السويدي المسمى “غوستافوس أدولفوس”، وسرعان ما نجح التقدم السويدي بحلول عام 1632، ولكن كل ذلك تلاشى عندما قُتل “غوستافوس أدولفوس” في معركة لوتزن.
ولم يتمكن خلفاؤه في القيادة من لعب أدوار جيدة في الحرب، وهُزم السويديون تدريجياً، ومع هذا الفشل، تم التوصل إلى اتفاق بين البروتستانت والكاثوليك، لكنه لم يرضِ فرنسا، التي قررت أخيراً التدخل في الحرب.
الفترة الفرنسية
خشي الفرنسيون من تقدم الإمبراطورية المقدسة، وعلى الرغم من كونهم كاثوليكيين، فقد قرروا إرسال قواتهم للحرب دفاعاً عن البروتستانت، لقد كان عملاً من أعمال الإستراتيجية الجيوسياسية، بمجرد أن عرف الفرنسيون أن هزيمة آل هابسبورغ ستفيد فرنسا، وستضع نفسها كقوة أوروبية، وأيضاً سيسمح لها ذلك بغزوات إقليمية جديدة.
وتم دعم الغزو الفرنسي، الذي بدأ في عام 1635، من قِبَل هولندا والسويد، و البروتستانت الجرمانيين، وتمكن الملك الفرنسي “لويس الثالث عشر” من حشد أكثر من 120 ألف جندي، وتمكنت القوات السويدية والفرنسية، معاً، من إنهاك القوات الجرمانية والكاثوليكية الإسبانية.
وقررت الإمبراطورية المقدسة، التي كان يحكمها فرديناند الثالث، فتح مفاوضات مع الفرنسيين والبروتستانت من أجل السلام في عام 1645، وقد عانت الإمبراطورية المقدسة من هزائم جديدة في الفترة 1645-1648.
سلام فيستفاليا
أثار سلام فيستفاليا، أو ويسفاليا، تحولات عميقة في أوروبا من وجهة نظر إقليمية ودولية، أولاً، كانت فرنسا والسويد أكبر الرابحين، لذلك حصلت الدولتين على مكاسب إقليمية مهمة.
وأجبرت الإمبراطورية المقدسة على منح سويسرا الاستقلال، واضطر الإسبان إلى منح الاستقلال لهولندا، وأخيراً، تقلصت سلطات الإمبراطورية المقدسة وإسبانيا بشكل كبير، وبدأت فرنسا فترة هيمنتها في أوروبا.
حرب الثلاثين عاماً مزقت أوروبا
لقد كانت حرب الثلاثين عاماً عنيفة للغاية، وكان المرتزقة المأجورون ينهبون باستمرار السكان المحليين ويهلكونهم.
وكانت تلك الحرب، من أعنف الحروب في تاريخ أوروبا، فقد قُتل الرجال والنساء والأطفال على يد القوات التي حاربت في الأراضي الجرمانية، واهلكت القرى، وانتشر الطاعون من قبل الإمبراطورية المقدسة، وبعد نهاية 30 عاماً من الصراع، يُقدر أن عدد القتلى كان أربعة آلاف، وتشير بعض الإحصاءات إلى أن الرقم قد يصل إلى ثمانية آلاف، ويقول البعض الآخر إن هناك 15 ألف حالة وفاة.
تم تقليص الإمبراطورية المقدسة، وعانت من انخفاض حاد في عدد السكان ومشاكل إقتصادية خطيرة خَلفها الصراع.
أقرأ أيضاً.. “الحرب العالمية الثانية” لم تُفرق بين عسكري ومدني