إيمان محمود خليفة
رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، وهي مولاة آل عتيك، كنيتها “أم الخير” ، وُلدت في مدينة البصرة بالعراق حوالي عام 100 هجريًا (717 ميلاديًا)، وهي الابنة الرابعة لأب عابد فقير ولهذا سميت رابعة، حفظت القرآن الكريم ورتلته بصوت عذب جميل في سنٍ صغيرة واشتهرت بالورع والزهد والتقوى، وكانت تلبس الصوف الخشن وتبتهل وتصلي الليل كله وتكثر من الصيام، ويُقال أنها كانت تصلي ألف ركعة في اليوم والليلة.
نشأة رابعة العدوية
ذكر فريد الدين العطار المؤرخ الصوفي في كتابه “تذكرة الأولياء” عن حياة رابعة أن والدها رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام يقول له “لا تحزن، فهذه الوليدة سيدة جليلة”، وتُوفي والدها وهي طفلة دون العاشرة وسرعان ما لحقت به الأم، لتجد رابعة وأخواتها أنفسهن بلا عائل في سن صغيرة في مواجهة الفقر والجوع، ومما زاد الأمر سوءًا الجفاف والقحط والوباء الذي انتشر في البصرة، مما اضطرها وأخواتها مغادرة البصرة، وتفرقت عن اخوتها لتصبح وحيدة مشردة.
وبسبب المجاعة، انتشر اللصوص وقطاع الطرق، وقام أحدهم باختطاف رابعة وباعها بستة دراهم لأحد التجار القساة من آل عتيق والذي أذاقها سوء العذاب وكان يثقل كاهلها بشتى الأعمال المرهقة الشاقة، ويحملها فوق طاقتها.
رابعة “أم الخير” التقية الورعة
لم تكن راحة رابعة، بعد عناء الأعمال الشاقة التي يكلفها بها سيدها، في النوم أو الطعام، ولكنها كانت في الصلاة ومناجاة الله ليلًا، لتستريح من عناء النهار وعذابه.
وبالرغم من القهر والمعاناة وألم اليتم وعذاب الاسترقاق والعبودية، ظلت رابعة على منهجها لا تريد سوى وجه الله ومحبته ورضاه، وقيل أن رابعة سُئلت ذات يوم، متى يكون العبد راضيًا؟ فقالت: إذا سرته المصيبة كما سرته النعمة.
وقد كانت رابعة كثيرة البكاء والحزن، إذا سمعت ذكر النار أغمى عليها، وقد كان موضع سجودها مليئًا بالماء دائمًا لكثرة دموعها.
رابعة العدوية تنال حريتها
وقد نالت أم الخير حريتها، عندما استيقظ سيدها ذات ليلة فوجدها ساجدة، وسمعها تنادي ربها وتقول: لكم يتمنى قلبي طاعتك وأن أبذل عمري متعبدة لك، ولو كان بيدي لما توقفت عن العبادة ولكن أمري بيد سيدي، وقد رآها سيدها تحيط رأسها هالة من النور وهي ساجدة تصلي وتتضرع إلى الله، فتعجب من ذلك وأعتقها، وابتعدت رابعة العدوية عن الناس، وأقامت في خلوتها للعبادة.
وقد قال لها سفيان الثوري ذات يوم وقد كان زاهدًا عالمًا، لكل عقد شريطة، و لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوفًا من ناره، ولا حبًا في جنته، فأكون كالأجير السوء إذا خاف عمل، أو إذا أُعطى عمل، بل عبدته حبًا له وشوقًا إليه.
كما سألها سفيان أيضًا ذات يوم: ما أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله -عز وجل- فبكت وقالت: مثلي يُسأل عن هذا؟ وقالت أقرب ما يتقرب العبد به إلى الله تعالى أن يعلم أنه لا يحب في الدنيا والآخرة غيره.
إنشاد رابعة في محبة الله
اشتهرت رابعة العدوية بإنشادها في محبة الله، فكل محب صادق يبحث عن القرب من محبوبه، ومن أشهر أشعارها:
عرفت الهوى منذ عرفت هواك وأغلقت قلبي عمن سواكا
وكنت أناجيك يا من تـــــــــرى خفايا القلوب ولسنا نراكـــا
أحبك حبين حب الهــــــــــــوى وحبًا لأنـك أهـــــــل لذاكـــــــا
فأما الذي هو حب الهــــــــــوى فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل لــــــــــــــه فكشفك للحجب حتـــى أراكا
فلا الحمدُ في ذا ولا ذاك لــي ولكن لك الحمدُ في ذا وذاكا
أحبك حبين حب الهــــــــــــوى وحبًـــــــا لأنـك أهــــل لذاكـــــــــا
واشتاق شوقين شوق النــــــوى وشوق لقرب الخلي من حماكا
فأما الذي هو شوق النـــــــــوى فمسرى الدُمـوع لطولِ نواكــا
وأما اشتياق لقرب الحمـــــــــــى فنـار حيـاة خبــت فـي ضيـاكا
ولست على الشجو أشكو الهوى رضيت بما شئت لي في هُداكا
ومن تواضعها أن جاءها رجل يطلب منها الدعاء يومًا، فقالت من أنا -يرحمك الله- أطع ربك، وادعه فإنه يجيب دعوة المضطر.
كما سُئلت رابعة العدوية أتحبين الله تعالى؟ قالت: نعم أحبه حقًا، فسُئلت وهل تكرهين الشيطان؟ فقالت: إن حب الله قد منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان، ومن مقولاتها الشهيرة “اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم”.
كرامات رابعة العدوية
هناك العديد من الكرامات في حياة رابعة العدوية منها أن لصًا دخل حجرتها وهي نائمة فحمل ثيابها وهَمَّ بالخروج، فلم يجد الباب فوضعها فوجده، فحملها فاختفى الباب مرة أخرى، فأعاد ذلك مرارًا، فهتف به هاتف أن دع الثياب فإنا نحفظها ولا ندعها لك وإن كانت نائمة.
عرض الزواج من أمير البصرة لرابعة العدوية
رفضت رابعة الزواج للتفرغ للعبادة ومناجاة الله حتى لا يشغلها أحد عن عبادتها وتقربها إلى الله، وهناك الكثير من الحكايات التي أحاطت بها، ومنها أن أمير البصرة “محمد بن سليمان الهاشمي” أرسل إليها ليطلبها للزواج، ولكنها أرسلت إليه كتابًا تقول فيه “اعلم أن الزهد في الدنيا راحة للقلب، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فهيئ زادك وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك ولا تجعل الناس أوصياءك، فيقتسمون تركتك، وصم الدهر واجعل فطرك الموت، واما أنا فلو أعطاني الله ما أعطاك وأمثاله، ما سرني أن اشتغل طرفة عين عن الله.
رابعة العدوية في السينما والدراما المصرية
شوهت السينما والدراما المصرية صورة رابعة العدوية، العابدة الخاشعة التي قضت حياتها في حب الله قولًا وعملًا، سرًا وعلانيةً، وذلك من خلال ما قدمته في فيلم “رابعة العدوية” عام 1963 ومسلسل “رابعة تعود” عام 1996 حيث أظهرت رابعة العدوية في بداية حياتها على أنها ماجنة، تعمل بالغناء وسقاية الخمر في حانات البصرة، ولكنها تابت بعد أن التقت بأحد الشيوخ الذي كان سببًا في دخول نور الهداية لقلبها، وهذا لا يتفق مع نشأتها في بيئة إيمانية منذ الصغر لأبوين عابدين، تقيين، حيث حفظت القرآن الكريم ورتلته وتدبرت آياته، وقرأت الحديث وتدارسته.
وفي النهاية فقد كانت رابعة العدوية مختلفة عن الصوفيين الأوائل الذين كانوا مجرد زهاد ونساك، فقد كانت صوفية بحق، تقية متصلة بالله، زاهدة في الدنيا، مخلصة في حبها لذات الله وحده، وهي صاحبة ومؤسسة مدرسة الحب الإلهي، وقد كانت وفاة رابعة العدوية في حوالي عام 185 هجريًا، 801 ميلاديًا ودُفنت بالبصرة.
اقرأ أيضًا.. مريم الاسطرلابي.. مبتكرة نظام تحديد المواقع “GPS” قبل 1000 عام