محمد أحمد كيلاني
نادرًا ما تستمر المصنوعات الخشبية عبر آلاف السنين، مما يجعل دراسة كيفية استخدام البشر القدماء لهذه المادة الخام تحديًا هائلاً، ومع ذلك، قدم فريق من العلماء من جامعتي ليفربول وأبيريستويث في المملكة المتحدة نتائج مذهلة في مجلة الطبيعة، دليل أحفوري على الهياكل الخشبية القديمة من عصر البليستوسين المكتشفة في حوض نهر كالامبو في زامبيا، ويعتبر هذا الدليل هو أقدم هيكل خشبي من صنع الإنسان.
وتسلط هذه الهياكل، التي يعود تاريخها إلى الماضي البعيد، الضوء على كيفية تفاعل البشر الأوائل مع بيئتهم وتشير إلى أنهم كانوا أكثر تقدمًا في صنع الأدوات واستخدامها مما كان يُعتقد سابقًا.
أقدم هيكل خشبي.. تحدي الحفظ والتأريخ
يُعد الحفاظ على الأشياء الخشبية على مدى آلاف السنين أمرًا نادرًا للغاية نظرًا للشروط اللازمة للحفاظ عليها، وقد ترك هذا للباحثين أدلة محدودة حول كيفية استخدام أسلافنا للخشب كمواد بناء وأنواع الهياكل التي قاموا بإنشائها.
ومع ذلك، فقد قدم اكتشاف مذهل في حوض نهر كالامبو، في زامبيا، دليلاً على وجود هياكل خشبية يعود تاريخها إلى عصر البليستوسين، وهذه الآثار هي من بين الآثار القليلة التي بقيت حتى يومنا هذا وتقدم نظرة رائعة على المهارات التقنية والإبداع لدى البشر القدماء.
وهذه كانت الاستخدامات التي أعطاها أجدادنا للخشب
ويقترح الباحثون أن البشر الأوائل الذين سكنوا هذه المنطقة عاشوا في بيئة رطبة، في السهول الفيضية لنهر كالامبو، ويبدو أن الهيكل الخشبي المكشوف كان له مجموعة متنوعة من الاستخدامات، بدءًا من العمل كممر فوق الأرض الرطبة إلى العمل كمنصة للأنشطة اليومية.
ويقول لاري بارهام، قائد الدراسة والباحث في جامعة ليفربول، إنه لو كانت المنصة كبيرة بما يكفي، لكان من الممكن استخدامها كمأوى، ومع ذلك، فإن عدم وجود بقايا كافية يجعل من الصعب تحديد وظيفتها بدقة.
مما يتكون أقدم هيكل خشبي؟
يتكون الهيكل الخشبي الذي تم العثور عليه من صندوقين، أحدهما فوق الآخر، ويحتوي الجذع العلوي على حز في المنتصف وأطراف مخروطية الشكل، ويبدو أن هذا الشق هو ابتكار بارع لضمان بقاء الجذع العلوي في مكانه، مما يمنع الحركة الجانبية.
كما تم تشكيل الجذع السفلي، المصنوع من الأشجار، بأدوات حجرية ويمر عبر الشق العلوي قبل أن ينتهي بسطح مسطح ورقيق، ويتوقع برهم أنه من الممكن أن تكون هذه النهاية قد تم إدخالها في جسم آخر، على الرغم من أن هناك حاجة إلى حفريات إضافية لتأكيد ذلك.
ويمثل هذا الاكتشاف أول دليل في العالم على أن البشر القدماء تعمدوا صنع هياكل خشبية تتطلب تركيبًا دقيقًا، وحتى الآن، كانت الأدلة على الاستخدام البشري للخشب مقتصرة في الغالب على الأدوات والأنشطة الأساسية، مثل إشعال النار وصنع الرماح والهراوات.
ما هي الأشجار التي جاءت منها هذه الهياكل؟
تنتمي جذوع الأشجار الأحفورية إلى نوع “كومبريتوم زيهيري” (Combretum zeyheri)، وهي شجرة استوائية لا تزال تنمو في منطقة كالامبو وتستخدم في بناء الأخشاب حتى يومنا هذا، وعندما يجف هذا الخشب، يصبح متينًا للغاية، وتستخدم جذوره في صناعة السلال، كما أن أجزاء الشجرة لها خصائص طبية.
وتشير الدلائل على أن الهياكل والأدوات الخشبية قد تم صنعها في هذه المنطقة إلى أن المجتمع لم يكن من البدو الرحل، وربما عادوا بانتظام لإعادة استخدام الأشياء التي تم إنشاؤها مسبقًا، ولا يتوافق هذا السلوك مع الخصائص النموذجية لمجموعات الصيد وجمع الثمار كثيرة الحركة.
الابتكار والتكيف في العصر الجليدي
لقد غيرت الاكتشافات في كالامبو فهمنا لأسلافنا الأوائل، ويشير برهم إلى أن هؤلاء الأشخاص كانوا أكثر شبهًا بنا مما كان يعتقد سابقًا، حيث قاموا بتحويل بيئتهم لجعل الحياة اليومية أسهل، وإن إنشاء منصة لإنجاز المهام اليومية يشير إلى مستوى من الذكاء والخيال والمهارات التقنية التي لم ترتبط حتى الآن بهذا العصر.
ويشير هذا الاكتشاف أيضًا إلى أن البشر القدماء كانوا قادرين على استخدام المواد المحلية لبناء بيئات وظيفية جديدة، وتشير أنيميكي ميلكس، عالمة الآثار المرافقة للدراسة، إلى أن هذه النتائج تمثل اللحظة التي “بدأ فيها الناس في تغيير الكوكب هيكليًا لمصلحتهم الخاصة”.
منهجية فريق البحث
لقد استخدم فريق البحث مجموعة متنوعة من الأساليب المتقدمة لتحليل وتأريخ هذه النتائج، وكان التأريخ بالتألق، وهي تقنية تسمح بتأريخ الأشياء القديمة بدقة أكبر، ضروريًا في تحديد عمر الهياكل الخشبية، وبالإضافة إلى ذلك، تم استخدام الفحص المجهري ومطياف الأشعة تحت الحمراء لفحص الأدوات وسطح الخشب بحثًا عن آثار الاستخدام والتآكل.
وتسمح هذه الأساليب الحديثة للتحليل الأثري للعلماء بالعودة إلى أبعد من ذلك في الزمن وكشف أسرار التطور البشري، ويشير جيف دولر، وهو عالم في جامعة أبيريستويث، إلى أن هذه الأساليب الجديدة “تسمح لنا بالرجوع إلى زمن أبعد بكثير وإعادة بناء المواقع التي تعطينا لمحة عن التطور البشري”.
واكتشاف الهياكل الخشبية التي صنعها البشر القدماء في حوض نهر كالامبو في زامبيا، يوفر نافذة رائعة على الماضي ويتحدى التصورات السابقة حول القدرات التقنية والقدرة على التكيف لدى أسلافنا البعيدين، ويسلط هذا الاكتشاف الضوء على أهمية العلم الحديث في كشف أسرار عصور ما قبل التاريخ، ويلقي الضوء على الإبداع والابتكار الرائعين للمستوطنين القدماء في المنطقة.
أقرأ أيضاً.. أقدم حيوان مفترس.. حكم الأرض لمدة 80 سنة