
محمد أحمد كيلاني
في خضم التحديات البيئية غير المسبوقة التي تواجه كوكبنا، تبرز قصص نجاح ملهمة تجاة التقدّم المحرز في مجال التغيّر المناخي وتظل العقبات الكبيرة قائمة. لقد شهد العقد الماضي تحولات جذرية في طريقة تعامل البشرية مع أزمة المناخ، من تطورات علمية مذهلة إلى سياسات دولية طموحة، ولكن السؤال الأهم.. هل نتحرك بالسرعة الكافية لتفادي الكارثة؟
الفصل الأول.. الثورة العلمية في فهم التغير المناخي
لقد شهد مجال البحث العلمي المتعلق بالمناخ تطورات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة. لم يعد الحديث عن تغير المناخ مجرد نظريات أو تنبؤات، بل أصبحت لدينا الآن أدلة دامغة وبيانات قاطعة.
أحدث التقنيات في مجال الرصد الجوي والفضائي مكنت العلماء من تتبع التغيرات المناخية بدقة غير مسبوقة، الأقمار الصناعية المتطورة مثل تلك التابعة لوكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية توفر الآن بيانات آنية عن ذوبان الجليد وارتفاع منسوب البحار وتركيزات غازات الدفيئة.
أما في مجال النمذجة المناخية، فقد أحدثت الحواسيب الفائقة ثورة حقيقية، والنماذج المناخية الحديثة أصبحت قادرة على محاكاة نظام المناخ العالمي بدرجة من الدقة لم تكن متاحة قبل خمس سنوات فقط، وهذه النماذج تساعدنا الآن على فهم التفاعلات المعقدة بين المحيطات والغلاف الجوي والغطاء الجليدي.
واحدة من أهم الاكتشافات الحديثة كانت الدور الحاسم الذي يلعبه الميثان في الاحتباس الحراري، والدراسات الحديثة أظهرت أن انبعاثات الميثان، خاصة من صناعة الوقود الأحفوري وتربية الماشية، قد تكون أخطر بكثير مما كنا نعتقد سابقًا، هذا الاكتشاف أدى إلى تحول في السياسات الدولية، حيث بدأت العديد من الدول في وضع استراتيجيات خاصة للحد من انبعاثات الميثان.
التقدّم المحرز في مجال التغيّر المناخي.. الفصل الثاني.. التحول الكبير في قطاع الطاقة العالمي
يشهد العالم حاليًا واحدة من أسرع التحولات الطاقةية في التاريخ. لقد تجاوزت الاستثمارات في الطاقة المتجددة تريليون دولار سنويًا، وهو رقم كان يبدو خياليًا قبل عقد من الزمن فقط.
الطاقة الشمسية تشهد نموًا مذهلًا، حيث انخفضت تكلفة الألواح الشمسية بنسبة 90% منذ عام 2010، ودول مثل الصين والهند والولايات المتحدة تقود حالياً ثورة الطاقة الشمسية، مع مشاريع عملاقة تصل قدرتها إلى آلاف الميغاوات. في بعض الأيام، تغطي الطاقة المتجددة الآن أكثر من 50% من احتياجات الكهرباء في دول مثل ألمانيا والدنمارك.
طاقة الرياح أيضاً تشهد تطورًا كبيرًا، خاصة في مجال توربينات الرياح البحرية. التوربينات الحديثة أصبحت أكثر كفاءة بثلاث مرات من تلك التي كانت متاحة قبل عشر سنوات. مشاريع مثل “هورنزي” في بريطانيا، الذي سيكون أكبر مزرعة رياح بحرية في العالم، تظهر مدى التقدم في هذا المجال.
التقدّم المحرز في مجال التغيّر المناخي
أما الهيدروجين الأخضر، فقد تحول من مجرد فكرة نظرية إلى واقع ملموس. دول مثل أستراليا والسعودية تستثمر مليارات الدولارات في مشاريع إنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي يمكن أن يصبح وقود المستقبل للصناعات الثقيلة والنقل لمسافات طويلة.
في الجانب الآخر، يشهد الفحم تراجعًا تاريخيًا، وأكثر من 40 دولة أعلنت التزامها بالتخلص التدريجي من طاقة الفحم، وأغلقت بريطانيا آخر محطة فحم لها في عام 2024. حتى الصين، التي كانت تعتمد بشكل كبير على الفحم، بدأت في خفض حصته في مزيج الطاقة لديها.
الفصل الثالث.. السياسات الدولية والتشريعات المناخية
شهد العقد الماضي تغيرًا جذريًا في النهج الدولي تجاه تغير المناخ. من اتفاق باريس التاريخي في 2015 إلى القمم المناخية الأخيرة، أصبحت قضية المناخ تحتل مكانة مركزية في السياسة العالمية.
اتفاق باريس كان نقطة تحول رئيسية، حيث وافقت لأول مرة جميع دول العالم تقريبًا على خطة عمل مشتركة للحد من الاحتباس الحراري. منذ ذلك الحين، أعلنت أكثر من 130 دولة التزامها بالوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن.
الاتحاد الأوروبي أطلق “الصفقة الخضراء” الأوروبية، وهي خطة طموحة تستثمر تريليون يورو لتحويل الاقتصاد الأوروبي إلى اقتصاد محايد مناخيًا، وهذه الخطة تشمل كل شيء من الطاقة إلى الزراعة إلى النقل، وتعتبر أكثر البرامج البيئية طموحاً في التاريخ.
في الولايات المتحدة، شهد عهد الرئيس بايدن إقرار قانون خفض التضخم، الذي يخصص 369 مليار دولار للاستثمار في الطاقة النظيفة وتقنيات المناخ. هذا القانون يعتبر أكبر استثمار في المناخ في تاريخ الولايات المتحدة.
ومع ذلك، تظل هناك فجوة كبيرة بين الالتزامات والتنفيذ، والعديد من الدول لا تزال متأخرة في تحقيق أهدافها، وهناك نقص كبير في التمويل المناخي للدول النامية، والوعود بتقديم 100 مليار دولار سنويًا للدول الفقيرة لم تتحقق بالكامل بعد، مما يخلق توترًا في المفاوضات الدولية، والتقدّم المحرز في مجال التغيّر المناخي..
التقدّم المحرز في مجال التغيّر المناخي.. الفصل الرابع.. الابتكارات التكنولوجية التي تغير قواعد اللعبة
يشهد مجال تكنولوجيا المناخ حالياً طفرة غير مسبوقة، مع ابتكارات يمكن أن تغير بشكل جذري طريقة تعاملنا مع أزمة المناخ.
تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه شهدت تقدمًا كبيرًا. مشروع “أوركا” في أيسلندا، وهو أكبر مصنع في العالم لسحب ثاني أكسيد الكربون مباشرة من الهواء، بدأ عملياته بنجاح. شركات التكنولوجيا الكبرى مثل مايكروسوفت تستثمر بكثافة في هذه التقنيات لتعويض انبعاثاتها.
في مجال الزراعة، ظهرت تقنيات “الزراعة الذكية مناخيًا” التي تزيد الإنتاجية مع تقليل الانبعاثات. استخدام الذكاء الاصطنائي في إدارة المحاصيل، وأنظمة الري الدقيقة، وتقنيات التسميد المتطورة كلها تساعد في خفض البصمة الكربونية للقطاع الزراعي.
قطاع النقل يشهد ثورة حقيقية مع الانتشار السريع للسيارات الكهربائية. في عام 2022، تجاوزت مبيعات السيارات الكهربائية 10% من إجمالي مبيعات السيارات العالمية لأول مرة. الشركات المصنعة تتنافس الآن على إطلاق سيارات كهربائية بأسعار معقولة ومدى شحن أطول.
أما في مجال الصناعات الثقيلة، مثل الصلب والأسمنت، التي كانت تعتبر صعبة التحول، فقد ظهرت تقنيات جديدة تستخدم الهيدروجين الأخضر بدلاً من الفحم، مما يفتح الباب أمام إمكانية إنتاج “الصلب الأخضر” و”الأسمنت الأخضر”.
الفصل الخامس.. التحديات المستمرة والعقبات الكبرى
رغم كل هذا التقدم، تظل التحديات كبيرة والعقبات هائلة. ارتفاع درجات الحرارة العالمية مستمر، حيث سجلت السنوات الثماني الماضية أعلى درجات حرارة في التاريخ المسجل. موجات الحر الشديدة والفيضانات المدمرة أصبحت أكثر تكراراً وشدة.
ذوبان الجليد في القطبين يتسارع بمعدلات مقلقة. الغطاء الجليدي في غرينلاند يفقد حوالي 280 مليار طن من الجليد سنويًا، وهو معدل أعلى بست مرات مما كان عليه في التسعينيات. هذا الذوبان يساهم في ارتفاع منسوب البحار الذي يهدد الملايين في المناطق الساحلية.
المقاومة من بعض القطاعات الصناعية والدول ما زالت قوية. شركات النفط الكبرى، رغم إعلاناتها عن التحول الأخضر، ما زالت تستثمر مليارات الدولارات في التنقيب عن موارد جديدة من الوقود الأحفوري. بعض الدول المنتجة للنفط تعيق التقدم في المفاوضات المناخية الدولية.
أكبر ظلم في أزمة المناخ هو أن الدول والجماعات الأقل مسؤولية عن الانبعاثات هي الأكثر تضررًا من آثارها، والدول الجزرية الصغيرة تواجه خطر الاختفاء تحت الأمواج، بينما المزارعون في أفريقيا وجنوب آسيا يعانون من الجفاف المتزايد الذي يدمر سبل عيشهم.
التقدّم المحرز في مجال التغيّر المناخي..الفصل السادس.. مستقبل معركة المناخ – ما الذي يمكن توقعه؟
النظر إلى المستقبل يثير مشاعر متضاربة بين الأمل والقلق. من ناحية، نحن نشهد تحولات غير مسبوقة في السياسات والتكنولوجيا والوعي العام. من ناحية أخرى، العلم يقول بوضوح أننا بحاجة إلى تسريع وتيرة التغيير بشكل كبير إذا أردنا تفادي أسوأ سيناريوهات تغير المناخ.
إحدى أهم النقاط الإيجابية هي تزايد مشاركة القطاع الخاص في معركة المناخ. الشركات الكبرى، تحت ضغط من المستثمرين والعملاء، تعلن التزامات طموحة للحد من انبعاثاتها. صناديق الاستثمار تسحب تريليونات الدولارات من الشركات الملوثة وتوجهها نحو الحلول الخضراء.
الابتكار التكنولوجي سيستمر في لعب دور محوري. التقنيات الناشئة مثل الانصهار النووي، وتخزين الطاقة المتقدم، والمواد الجديدة منخفضة الكربون، يمكن أن توفر قفزات نوعية في قدراتنا على مواجهة التحدي المناخي.
على الصعيد السياسي، ستكون السنوات القليلة المقبلة حاسمة. مؤتمرات الأطراف السنوية (COP) تزداد أهمية، حيث تتحول من مجرد منتديات للتفاوض إلى منصات لإطلاق مبادرات ملموسة. نجاح أو فشل الدول في تحقيق التزاماتها سيكون محكاً حقيقياً لمصداقية العمل المناخي الدولي.
معركة العصر – هل يمكن للبشرية أن تنتصر؟
قصة التغير المناخي هي قصة التناقضات البشرية في أبهى صورها. من ناحية، نحن الجنس البشري الذي تسبب في المشكلة عبر قرون من التصنيع غير المسؤول. ومن ناحية أخرى، نحن نفس الجنس الذي يظهر الآن قدرة مذهلة على الابتكار والتكيف والعمل الجماعي.
التقدم المحرز في السنوات الأخيرة يبعث على الأمل، ولكنه غير كاف. نحن بحاجة إلى تسريع وتيرة التغيير بعشر مرات إذا أردنا الحفاظ على فرصة للحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية.
المعركة ضد تغير المناخ هي اختبار حقيقي لمدى قدرة البشرية على توحيد صفوفها لمواجهة تهديد وجودي. إنها تتطلب تغييرًا جذريًا في أنماط حياتنا، في اقتصاداتنا، وفي طريقة تفكيرنا عن علاقتنا بالطبيعة.
السؤال الآن ليس هل لدينا التكنولوجيا أو الموارد الكافية – لأننا نمتلكها – بل هل لدينا الإرادة السياسية والالتزام الأخلاقي لاتخاذ الإجراءات اللازمة قبل فوات الأوان؟
في النهاية، معركة المناخ ليست مجرد معركة لإنقاذ الكوكب، بل هي معركة لإنقاذ أنفسنا ولضمان مستقبل يمكن للأجيال القادمة أن تزدهر فيه. الخيارات التي نتخذها اليوم ستحدد مصير البشرية لقرون قادمة.
اقرأ أيضًا.. مقومات الحضارة.. أساسيات الازدهار والتقدم