محمد أحمد كيلاني
في عهد نظام فرانكو، كان هناك طموح خطير بقدر ما كان مغريا، وهو غزو القدرة النووية، وفي عالم مستقطب بسبب الحرب الباردة، كانت أسبانيا تبحث عن مكان لها على السبورة الدولية، فتنقل بين الفروق الدقيقة الغامضة في سياسة منع الانتشار النووي التي كانت تخفي رغبة غير سرية في الحصول على الطاقة النووية، وقد عكس هذا المسعى، الذي أطلق عليه اسم “مشروع إيسليرو” (Proyecto Islero)، في إشارة رمزية إلى الثور الذي قتل مانوليتي.
القنبلة النووية الإسبانية
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أعيد تشكيل الوضع الدولي في ظل الحرب الباردة، وفي هذا النظام العالمي الجديد، تم تهميش إسبانيا، التي يحكمها نظام فرانكو، ونُظر إليها بعين الريبة بسبب ماضيها المليء بالتعاطف الاستبدادي.
ودفعت هذه العزلة إسبانيا إلى البحث عن استراتيجيات لإعادة الانضمام إلى مجموعة الدول، وتسليط الضوء عليها، ولذلك انضمت إلى حلف شمال الأطلسي كمناورة للانضمام إلى الكتلة الغربية.
وفي عالم حيث كانت الطاقة النووية بمثابة القوة العظمى، أدركت أسبانيا الحاجة إلى تطوير قدراتها النووية ليس فقط كرمز للسيادة، بل وأيضًا كوسيلة لممارسة النفوذ وضمان أمنها، فإن الضغط الناجم عن كونها محاطة بالقوى النووية والرغبة في تأكيد نفسها في سيناريو عالمي تهيمن عليه هذه القوى دفع إسبانيا إلى اعتبار العتبة النووية هدفًا استراتيجيًا رئيسيًا.
مشروع إيسليرو
كان مشروع إيسليرو واحدًا من أعظم طموحات الاستراتيجية العسكرية والعلمية الإسبانية، وقد سُمي تخليدًا لذكرى الثور الذي أنهى حياة مصارع الثيران الشهير مانوليتي، وهو يرمز إلى الرقصة الخطيرة مع القوة الذرية التي كانت إسبانيا على استعداد للقيام بها.
وتحت إشراف غييرمو فيلاردي، العقل اللامع في مجال الفيزياء النووية، شمل هذا المشروع جهود إسبانيا لاكتساب القدرة النووية، متأرجحة بين الرغبة في التقدم العلمي والطموح للقوة العسكرية.
وفي السيناريو المعقد للحرب الباردة، كان دور الولايات المتحدة وفرنسا حاسمًا، فقد عرضت فرنسا، التي تسعى إلى تحقيق أجندتها النووية الخاصة، على إسبانيا وسيلة لتطوير التكنولوجيا اللازمة تحت ستار الاستخدامات المدنية، في حين مارست الولايات المتحدة، خوفًا من الانتشار النووي، تأثيرًا متناقضا بين التعاون التكنولوجي والضغط الدبلوماسي للحد من الطموحات النووية الإسبانية.
ومن جانبها، أبحرت إسبانيا بمهارة عبر ازدواجية التكنولوجيا النووية، فروجت رسميًا للاستخدام المدني للطاقة النووية بينما استكشفت سرًا تطبيقاتها العسكرية.
وواجهت الجهود الفنية والعلمية لتطوير سلاح نووي تحديات عديدة، بدءًا من التعقيد الفني المتمثل في تخصيب اليورانيوم وإنتاج البلوتونيوم ذي الدرجة العسكرية، إلى التحدي الدبلوماسي المتمثل في القيام بذلك دون فرض عقوبات دولية.
ومن خلال مزيج من التعاون الدولي والجهود المحلية، ساهم مشروع إيسليرو في تطوير المعرفة النووية الإسبانية، على الرغم من أن البلاد اضطرت في نهاية المطاف إلى مواجهة الواقع السياسي الدولي والقيود المفروضة على موقفها على المسرح العالمي.
ويسلط هذا الفصل من تاريخ إسبانيا النووي الضوء على التوتر بين الرغبة في الاستقلال التكنولوجي والقيود التي يفرضها النظام العالمي الذي تهيمن عليه القوى النووية العظمى.
مشروع إيسليرو.. معاهدة ضد القنبلة
كان القرار الذي اتخذته أسبانيا بالانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في عام 1987 بمثابة نقطة تحول في سياستها النووية، وذلك نتيجة لتضافر عوامل دولية ومحلية.
ولعبت الضغوط الدولية، وخاصة من الولايات المتحدة، دورًا حاسمًا، بما يتماشى مع سياق نزع السلاح العالمي والجهود المبذولة للحد من الانتشار النووي.
ومن الناحية الاقتصادية، كانت تكلفة تطوير وصيانة ترسانة نووية قابلة للاستمرار هائلة، مما شكل تحديًا غير مستدام للاقتصاد الإسباني في ذلك الوقت.
إن التغيير في النظام السياسي، مع التحول إلى الديمقراطية بعد وفاة فرانكو، سهّل إعادة التفكير في الأولويات الوطنية، والميل نحو الاندماج في النظام الدولي بدلاً من البحث عن طاقة نووية مستقلة.
ولم يؤكد هذا التحول في سياسة إسبانيا الخارجية والدفاعية التزامها بالسلام والأمن العالميين فحسب، بل عزز أيضًا مكانتها في أوروبا وفي المجتمع الدولي، وعزز صورتها كجهة فاعلة مسؤولة ومتعاونة على المسرح العالمي.
وإن الرحلة النووية التي خاضتها إسبانيا، والتي اتسمت بمشروع إيسليرو الطموح ولكن المجهض في نهاية المطاف، تكشف عن شبكة معقدة من التطلعات والسيادة والتوق إلى الاحترام على المسرح العالمي، وهي الشبكة التي ميزت إسبانيا خلال فترة من عدم اليقين العالمي.
وتعكس هذه القصة البحث عن مكانة القوة من خلال القدرة النووية والاعتراف بالحدود التي تفرضها الجغرافيا السياسية والاقتصاد والأخلاق الدولية، وإن التخلي النهائي عن الأسلحة النووية والانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي يظهران النضج السياسي وإعادة التوجه نحو التكامل والتعاون الدوليين، والابتعاد عن سياسات القوة الأحادية الجانب.
ويقدم لنا مشروع إيسليرو والطموح النووي الإسباني سردا للتطلعات إلى السلطة والسيادة والبحث عن مكان في النظام العالمي، في إطار تعقيد الجغرافيا السياسية والتطور التكنولوجي والمعضلات الأخلاقية العالمية فيما يتعلق بالأسلحة النووية.
وتعكس هذه الرحلة، من الطموح إلى التنازل، التوتر بين الرغبة في الأمن والمسؤولية العالمية، وتبين كيف تسير الأمم في التوازن الدقيق بين القوة والحصافة.
أقرأ أيضاً..تمتلك إسبانيا قطعة من القارة القطبية الجنوبية ولا يعرفها أحد