شخصيات

ابن النفيس.. من دمشق إلى القاهرة رحلة عالم غير مسار التاريخ

محمد أحمد كيلاني 

في القرن الثالث عشر الميلادي، بينما كانت أوروبا تغط في ظلمات العصور الوسطى، شهد العالم الإسلامي ازدهارًا علميًا غير مسبوق، وفي هذا المناخ المعرفي المثمر، برز علاء الدين ابن النفيس كواحد من أعظم العقول الطبية في التاريخ، ولد في دمشق عام 1213م، وانتقل لاحقًا إلى القاهرة حيث ترأس المستشفى المنصوري، ليترك وراءه إرثًا علميًا لا يزال محل إعجاب وتقدير حتى يومنا هذا.

ابن النفيس والثورة العلمية.. اكتشاف الدورة الدموية الصغرى

يُعتبر اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى من أعظم الإنجازات في تاريخ الطب، ففي وقت كان الجميع يتبعون نظريات جالينوس التي عمرت أكثر من ألف عام، تجرأ هذا العالم الفذ على نقضها وإثبات خطئها، وشرح في كتابه “شرح تشريح قانون ابن سينا” كيف ينتقل الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين عبر الشريان الرئوي، حيث يتم تزويده بالأكسجين قبل أن يعود إلى القلب عبر الأوردة الرئوية.

ما يثير الدهشة أن هذا الاكتشاف الجوهري ظل مجهولًا في الغرب لقرون طويلة، حتى أعاد الباحثون اكتشاف مخطوطات ابن النفيس في القرن العشرين، مما أثار جدلًا كبيرًا حول أحقية العالم الألماني ويليام هارفي باكتشاف الدورة الدموية الذي جاء بعده بأكثر من ثلاثة قرون.

موسوعية العلم.. إنجازات تتجاوز الطب

لم يكن ابن النفيس طبيبًا فحسب، بل كان موسوعة علمية متحركة، فقد برع في مجالات متعددة تجاوزت الطب إلى الفقه واللغة والفلسفة، وقد ألف كتاب “المهذب في الكحل” الذي وضع فيه أسس جراحة العيون بتفصيل دقيق، كما كتب “طريق الفصاحة” في علوم اللغة، و”الرسالة الكاملية” التي ناقش فيها العلاقة المعقدة بين الروح والجسد.

في مجال التشريح، قدم وصفًا دقيقًا لتشريح العين والأذن والدماغ، متجاوزًا بذلك المعارف السائدة في عصره، كما اهتم بدراسة الأمراض وطرق علاجها، معتمدًا على الملاحظة الدقيقة والتجربة العملية، مما جعل منه رائدًا للمنهج العلمي التجريبي.

إرث مهمل: لماذا غُيب دور ابن النفيس؟

تعرضت إنجازات ابن النفيس للتجاهل لعدة أسباب تاريخية ومعرفية، أولاً، سادت في أوروبا نظرة استعلائية تجاه العلم العربي والإسلامي خلال عصر النهضة. ثانيًا، لم تترجم العديد من أعماله إلى اللاتينية إلا متأخرًا. ثالثًا، أدت الصراعات السياسية والحضارية إلى إهمال الكثير من التراث العلمي الإسلامي.

ومع ذلك، فإن الأكاديميين المعاصرين يعيدون اليوم اكتشاف أهمية ابن النفيس، حيث تؤكد المصادر الطبية الموثوقة أن إسهاماته في علم التشريح والفيزيولوجيا كانت أساسية لتطور الطب الحديث. لقد سبق عصره بقرون، وترك لنا درسًا بليغًا في أهمية الشجاعة الفكرية والاستقلال في البحث العلمي.

اقرأ أيضًا.. أبو البقاء الرندي.. خاتم الأدباء في الأندلس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *