تاريخ

إمبراطورية الخمير.. صعود مدهش وسقوط أسطوري في قلب كمبوديا القديمة

محمد أحمد كيلاني

بحلول القرن السابع الميلادي، كانت إمبراطورية الخمير تسيطر على أراضي ممتدة على طول نهر الميكونغ، وهو سابع أطول نهر في العالم، من الدلتا حتى ما يُقارب الحدود الحديثة بين كمبوديا ولاوس، بالإضافة إلى المنطقة الواقعة بين هذا النهر وبحيرة تونلي ساب الكبرى غربًا، والمنطقة الممتدة على طول نهر تونلي ساب الذي يتدفق من البحيرة نحو البحر، حيث يلتقي بنهر الميكونغ في منطقة الدلتا، وكانت هناك ممالك عدّة في صراع دائم، وتميّزت بثقافة وفن متأثرَين بشكل كبير بالهند نتيجةً لطرق التجارة البحرية التي كانت قائمة منذ زمن طويل مع شبه القارة الهندية.

ديانة إمبراطورية الخمير

كانت الهندوسية، إلى جانب البوذية، من الديانات السائدة في المنطقة، وكانت ممزوجة بمعتقدات تقليدية وطقوس أنيمية. من المدن المهمة آنذاك: أنغكور بوري، سامبور بري كوك، بانتاي بري نوكور، ووات فو، ويُقال إن رجلًا يُدعى جايافارمان الثاني، جاء من مكان يُدعى “جاوة” (وقد تكون أو لا تكون الجزيرة المعروفة بجاوة في جنوب شرق آسيا)، قاد حملات عسكرية ناجحة خضعت على إثرها معظم هذه الممالك الصغيرة، مؤسسًا بذلك كيانًا سياسيًا كبيرًا، وفي عام 802 ميلاديًا، اتخذ لقب “تشاكرافارتين”، أي “الحاكم الكوني”، وتُعد هذه السنة تاريخ بداية الإمبراطورية الخميرية.

التوسع

واتخذت الإمبراطورية مدينة أنغكور عاصمةً لها، وبدأت بالتوسع خلال القرون التالية باتجاه الشمال (نحو هضبة خورات) والغرب حتى حوض نهر تشاو فرايا وما بعده، أما من الجهة الشرقية، فكانت المواجهات مختلفة، حيث خاضوا حروبًا عدّة ضد التشام (فيتنام الوسطى حاليًا) والفيتناميين (فيتنام الشمالية)، ورغم بعض الانتصارات مثل احتلال عاصمتهم “فيجايا” عام 1145م، لم يتمكن الخمير من ضمّ تلك الأراضي نهائيًا، بل على العكس، تعرضوا لهزائم من أبرزها غزو التشام لأنغكور عام 1177م، مما دفع الإمبراطورية إلى حافة الانهيار.

على مرّ تاريخها، واجهت البلاط الخميري تحديات داخلية، أبرزها التمردات التي قادها نبلاء طامحون للاستقلال أو مؤامرات ضد الملك، خاصة عند وفاة الملك، حيث كانت وراثة العرش غالبًا موضع نزاع.

كان الخمير مهندسين وبنّائين عظام، فقد عمّروا معابد ضخمة، وخزانات مائية هائلة تُعرف بـ “باراي”، وقنوات مياه، بالإضافة إلى شبكة طرق واسعة تمتد على 800 كم، أما أعظم معابدهم فهو “أنغكور وات”، والذي يُمثل نسخة مصغرة للكون الهندوسي، ويُعد اليوم أكبر مجمّع ديني في العالم بمساحة تصل إلى 200 هكتار، ومقصدًا للسيّاح من كل مكان، وقد بُني في عهد الملك سورافارمان الثاني نحو عام 1122م، واستغرق بناؤه نحو 30 عامًا.

ويُعد الملك جايافارمان السابع (حكم بين 1181-1215م) أعظم ملوك الإمبراطورية. فقد طرد التشام من أنغكور، وأعاد النظام إلى المملكة، ثم غزا مملكة تشام، وتميّز عصره بحملة عمرانية غير مسبوقة، شملت بناء المعابد، والنُصُب، والطرقات، ومئة مستشفى، إلى جانب مجمع “أنغكور ثوم” المذهل، وهي مدينة داخل مدينة في قلب أنغكور. كما وصلت الإمبراطورية في عهده إلى أقصى اتساعها الجغرافي.

كان الاسم الأصلي لأنغكور هو “ياشودارابورا” أي “المدينة الحاملة للمجد”، وقد أصبحت في أوج مجدها أكبر مدينة في العالم، ممتدة على مساحة ألف كيلومتر مربع، وهو حجم يقارب مدينة لوس أنجلوس الحديثة، ويُقدر عدد سكانها آنذاك بمليون نسمة تقريبًا.

اشتهر الخمير بحبهم للاحتفالات، وكان لديهم العديد من المناسبات السنوية التي تضم المصارعة، وسباقات الخيل، ومصارعة الديوك، والألعاب النارية، والموسيقى، والرقص. كما تشير المصادر إلى أن النساء كنّ يقمن بدور بارز في التجارة، وكان الملوك والنبلاء يتنقلون بواسطة المحفات وتحت المظلات، وتعددت المعتقدات الدينية، إذ فضّل بعض الملوك الهندوسية بدايةً، ثم تحولوا لاحقًا إلى البوذية. وكان للدولة نظام إداري معقد، يُقسَّم إلى حوالي 23 مقاطعة، ويضم جهازًا إداريًا واسعًا يصل حتى مستوى القرى، وكانت تُجرى إحصاءات سكانية بشكل دوري. ورغم أهمية هذا الجهاز للنهضة، فقد كان بعض مسؤوليه مشاركين في المؤامرات التي هزّت القصر الملكي.

أما سقوط الإمبراطورية فكان مرتبطًا إلى حد كبير بالهجرة التايلاندية الكبرى بين القرنين 12 و14 ميلاديًا، إذ جاء التايلانديون من الشمال، من منطقة “يونّان” الجبلية الواقعة بين الصين وجنوب شرق آسيا، وكان هناك مملكة تايلاندية تُدعى “نانتشاو”. ولأسباب مجهولة، بدأوا بالهجرة جنوبًا في البداية كمجموعات صغيرة، ثم ظهروا في السجلات الخميرية كجنود مرتزقة، وازداد عددهم تدريجيًا مع استقرارهم في المناطق الحدودية.

وتفاقمت الهجرة مع غزو المغول للصين، حيث سيطروا على يونّان عام 1253م، مما زاد من ضغط الهجرة. وفي النهاية، أسس التايلانديون ممالكهم الخاصة غرب الإمبراطورية، ومع تعاظم قوتهم، بدأوا بمهاجمة وضمّ أراضي الخمير. كما قد تكون البنية الاقتصادية للإمبراطورية قد تضررت بفعل تراكم الطمي في المنشآت المائية الضخمة. وفي عام 1431م، استولى مملكة “أيوتايا” التايلاندية على أنغكور، ليسدل الستار على الإمبراطورية الخميرية.

اقرأ أيضًا.. نهاية الإمبراطورية العثمانية.. مرحلة توزيع الدول العربية كهدايا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *