مصطفى غازي
ما يُميز سويسرا إلى جانب الساعات والشيكولاتة والمناظر الطبيعية، هو النظام المصرفيُّ الذي يحظى بشهرةٍ عالمية، بأنه الأكثر التزاما بالحياد والسرية،لكنه يواجه ملاحقة قضائية من الولايات المتحدة الأمريكية، فكيف ترسخَت هذه المبادئ؟ ولماذا تلاحقها أمريكا؟ وماذا عن أرصدة هتلر المخفية منذ الحرب العالمية الثانية؟ كل هذه الأسئلة نجيب عليها في هذا الموضوع الذي يوضح تفاصيل وخفايا النظام المصرفي السويسري.
حول الجمهورية الاتحادية السويسرية
تقع سويسرا غربيِّ أوروبا، ومساحتها 42 ألف كيلو متر مربع، وهي دولة لا تطل على سواحلَ بل تشترك في حدودها مع ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والنمسا وليشنيشتاين.
عملتُها الفرانك السويسري، وتُعتبرالفرنسيةُ لغتَها الرسمية، وتعداد سكانها حوالي تسعةَ ملايين نسمة.
تُعرف رسميا بجمهورية سويسرا الاتحادية حيث تتكون من كانتونات أي – ولايات لكلٍ منها نظام فيدرالي مستقل ولكنها متحدة ضمن نظام جمهوري – وعددها 26 كانتون إلى جانب العاصمة بيرن التي يقع فيها مقر السلطة الاتحادية، وأشهرها جينيف وزيورخ وبازل.
أقدم سياسة حياد في التاريخ – لكن بعد هزيمة نابليون –
سنة 1515، هزمت القواتُ الفرنسية الاتحادَ السويسري القديم في معركة مارينيانو، فقرر السويسريون أن ينحصر طموحَهم في الاستقرار والأمان الاقتصادي، ووقعوا معاهدة السلام 1516 مع فرنسا.
أعلنت سويسرا بعد ذلك عدم رغبتها في المشاركة في أي نزاع عسكري بالصدام المباشر أو بالتحالف مع القوى المتنازعة، وتفرغ السويسريون لتطوير نظام السرية المصرفي وإخفاء هوية أصحاب الحسابات البنكية؛ لتكون أقدم سياسة حياد في التاريخ.
أُقرَّ الحيادُ السويسري عام 1815 في مؤتمر فيننا بمشاركة (النمسا وفرنسا وبريطانيا والبرتغال وبروسيا وروسيا وإسبانيا والسويد) وكان ذلك بعد استغلال الحدود السويسرية حربيًا للمرة الأخيرة لهزيمة قوات نابليون.
حربٌ عالميةٌ على الحدود.. والحيادية على المَحَك
بين عشية وضحاها أصبحت سويسرا في مأزق ولا أصعب يختبر التزامها الحياد؛ فهي محاطةٌ بأطراف الحرب العالمية الثانية، ودول المحور والحلفاء على حدودها المباشرة.
التزمت الحيادَ بصرامة، وحشدت مليون جندي على حدودها؛ لتمنعَ العبورَ لأراضيها إلا ضمن قوانين تعاقب المخالفين بالاعتقال، كما منعت الطيران الحربي لجميع الدول المحاربة من التحليق في سمائها.
انتهت الحرب وسويسرا هي الرابح الأكبر، فقد أثبتت قدرتها على الوفاء لحيادها وثباتها عليه مهما تعاظمت الضغوط، وأصبحت جديرة بالثقة العالمية، بالإضافة إلى أرباح النشاط الاقتصادي الذي تبادلته مع الأطراف المتحاربة.
سرقة النازية وتجارة المقتنيات المنهوبة مع هتلر
بزعم حماية التراث الثقافي؛ قام هتلر باستخدام وكلاء من قواته بجمع التحف والمقتنيات الثمينة من الدول التي احتلها، في الفترة من عام 1933 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
كان المفترض أن يعيد هتلر هذه الكنوز لأصحابها بعد الحرب، لكن يبدو أن قيمتها الضخمة أغرته لاستخدامها في تمويل مجهوده الحربي – إن لم يكن هذا ما خطط إليه أصلا- فقد بلغت عدوانيته في النهب مداها عام 1940 لدرجة سلب الممتلكات الشخصية علنًا، لا سيَّما أموال اليهود التي استباحها وأرصدتَهم البنكية.
بعض التقديرات تشير إلى أن مقدار الذهب المنهوب من دول مثل بلجيكا وهولندا والنمسا، بلغ ما يعادل 550 مليون دولار، هذا بخلاف الفضة والتحف والمقتنيات الثمينة اللي لا تقدر بثمن.
النظام المصرفي السويسري.. مشكلة تسويق سرقة النازية.. والحل سويسرا
في ظل الأزمات التي سببتها الحرب، ظهرت إبداعات هتلر في تسويق التحف المنهوبة، وبينما كانت معظم دول العالم أعداءً لهتلر، كانت الدول التي أعلنت الحياد هي وجهته ووسيلته – وعلى رأسها سويسرا-.
لم تسشعر سويسرا الخجلَ من شراء الثروات المنهوبة من هتلر، والتي كانت شحناتها تتواصل بكثافة إلى حدودها، بل إن كثير من الشركات السويسرية مثل نستلة ونيو فارتس استمرت في التعاون المعلن مع نظام هتلر النازي.
كذلك اتخذت الحكومة السويسرية قرارًا بمنع اللاجئين اليهود من الدخول لأراضيها، وفي سنة 1938 أمر رئيس الشرطة السويسرية بوضع علامة الرفض على جوازات سفراليهود الألمان بينما سُمح بدخول أموالهم المنهوبة لأرصدة البنوك.
واجه موقف البنوك والشركات السويسرية اعتراضا شديدا من قطاع عريض من المواطنين والبرلمانيين، فضلا عن الموقف الدولي الذي كاد أن يحارب سويسرا لولا انشغالهم بحرب هتلر نفسه.
اليهود وأصحاب الأموال المنهوبة يطالبون بالتعويض
سنة 1945 بدأت دول الحلفاء تطالب سويسرا برد الأموال المنهوبة، الطلب الذي رفضته بنوك سويسرا في البداية طبعا، لكن بعد عقد اتفاقية دولية، أُجبرت سويسرا على دفع 60 مليون دولار للضحايا اليهود.
سنة 1969 صدر قانون يلزم البنوك السويسرية بتحديد الحسابات الخاملة لديها، وساعد هذا القانون في رد ١٥ مليون دولار لأصحابها.
أما في سنة 1996 شكل المجلس اليهودي العالمي لجنة خاصة للتحقيق، وبعد سنتين كانت النتائج مذهلة، 100 طن من الذهب هربه النازيون إلى سويسرا.
صدر الحكم بتعويضٍ قيمته 1,25 مليار دولار لنصف مليون يهودي من ضحايا الهولوكوست، وشاركت فيه مؤسسات سويسرية مثل نستلة وبنك زي كريديت سويز، هذا بالإضافة لتبرعات إجبارية لمنظمة الصليب الأحمر بقيمة 40 مليون دولار.
النظام المصرفي السويسري يواجه الملاحقة القضائية الأمريكية .. وتفاقم المشكلة
نزيف الأموال في شكل تعويضات بالإضافة إلى خسارة الأرصدة المخفية لصالح المطالبين من أصحاب الأموال المنهوبة أدَّى إلى خسارة البنوك السويسرية لقدر كبير من قيمتها التسويقية، فتفاقمت المشكلة.
الملاحقةَ القانونية تجاوزت أصحاب التعويضات والأموال المنهوبة إلى قضية مرفوعة في الولايات المتحدة يَتهم فيها بعضُ المستثمرين الأميركيين، بعضَ البنوك السويسرية بإخفاء مشاكلها الكبيرة بشكل أثَّر عليهم سلبيًّا.
ومؤخرًا قام البنك الوطني السويسري (البنك المركزي) بضخ حوالي 50 مليار فرنك سويسري بما يعادل (54 مليار دولار) كقروض ميسرة لاحتواء الأزمة، ومازالت السلطات السويسرية تسعى لإيجاد حل جذري ينقذ القطاع المصرفي السويسري من الانهيار.
أقرأ أيضاً.. كيف غيرت صدمة نيكسون والبترودولار النظام الاقتصادي العالمي إلى الأبد؟