
محمد أحمد كيلاني
في فجر التاريخ، وقف الإنسان على أعتاب أعظم تحول في مسيرته، حين تحول من كائن يجمع ثمار الأرض إلى مزارع يزرعها، ومن صائد متنقل إلى ساكن مستقر، وهذه اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية، التي نعرفها باسم العصر النيوليتي أو العصر الحجري الحديث، لم تكن مجرد تغير في نمط العيش، بل كانت الثورة التي وضعت اللبنات الأولى لكل الحضارات اللاحقة، في هذا الموضوع تتعرف على الكثير من مميزات العصر الحجري الحديث.
مميزات العصر الحجري الحديث.. الأرض تمنح والإنسان يبدع
في الفترة بين عامي 10000 و5000 قبل الميلاد، اكتشف الإنسان أن بوسعه أن يروض الطبيعة بدل أن يخضع لها، وفي سهول الهلال الخصيب ووادي النيل ومرتفعات الأناضول، بدأت أولى المحاولات لزراعة القمح والشعير والبقوليات، ولم يكن هذا التحول الزراعي مجرد تغيير في طريقة الحصول على الطعام، بل كان نقلة حضارية شاملة أعادت تشكيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
بالتوازي مع الثورة الزراعية، أدرك الإنسان أنه قادر على ترويض الحيوانات لا اصطيادها فقط، فظهرت قطعان الماعز والأغنام التي وفرت اللحم والصوف، والأبقار التي أعطت الحليب وساعدت في حرث الأرض، وهذا التحول المزدوج في التعامل مع النباتات والحيوانات شكل نظامًا اقتصاديًا جديدًا قائمًا على الإنتاج لا الجمع.
مميزات العصر الحجري الحديث من الكهوف إلى القرى
سمح الاستقرار الزراعي بظهور نمط جديد من السكن. بدأت تنتشر البيوت المبنية من الطين والحجارة، ذات الأساسات الثابتة التي تحمل جدرانًا وسقوفًا، وهذه المساكن لم تكن مجرد أماكن للنوم، بل أصبحت ورشًا للعمل ومراكز للحياة الأسرية، وحول هذه المساكن نشأت أولى القرى التي جمعت بين عدة عائلات في مجتمع متعاون.
ظهرت مع الاستقرار حاجات جديدة دفعت الإنسان إلى تطوير أدواته، ولم تعد الأدوات الحجرية الخشنة كافية، فتعلم صقل الحجر لصنع فؤوس أكثر حدّة ومناجل فعالة ومجارش لطحن الحبوب، هذه الأدوات المتطورة ساعدت في زيادة الإنتاج الزراعي وفتحت الباب أمام ظهور حرف جديدة مثل الفخار والنسيج.
العصر الحجري الحديث.. نسيج المجتمع الأول
مع تعقد الحياة الاجتماعية، بدأت تظهر ملامح التنظيم المجتمعي، وتطلبت الزراعة التعاون بين الأفراد، مما أدى إلى ظهور أول أشكال تقسيم العمل. كما برزت الحاجة إلى شخصيات تقوم بدور الوسيط في حل النزاعات وتنظيم توزيع الموارد، فكانت هذه النواة الأولى للسلطة السياسية.
لعبت المرأة دورًا محوريًا في هذه التحولات، فمن خلال مراقبتها الدورية لنمو النباتات وتجربتها في اختيار البذور، ساهمت بشكل أساسي في تطوير الزراعة، كما كانت المسؤولة الرئيسية عن إدارة الموارد المنزلية وصناعة الفخار والنسيج، مما جعلها في قلب الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
بدايات التبادل الثقافي
أدى فائض الإنتاج الزراعي إلى ظهور أولى أشكال التجارة. بدأ سكان القرى يتبادلون المحاصيل الزائدة عن حاجتهم مع جيرانهم مقابل أدوات أو مواد غير متوفرة في مناطقهم، وهذه الشبكات التجارية المبكرة لم تنقل السلع المادية فقط، بل كانت قنوات لانتشار الأفكار والتقنيات بين المجتمعات المختلفة.
الفن يعبر عن الروح
لم يقتصر إبداع الإنسان النيوليتي على الجانب المادي، بل عبر عن رؤيته للعالم من خلال الفنون، نحت تماثيل صغيرة تجسد آلهة الخصوبة، ورسم على جدران مساكنه مشاهد من الحياة اليومية، هذه الأعمال الفنية تكشف عن بدايات الوعي الجمالي والروحي، وعن محاولات الإنسان الأولى لفهم العالم من حوله وإعطاء معنى لوجوده.
إرث لا ينضب
كل مظاهر حياتنا المعاصرة تمتد جذورها إلى تلك الثورة النيوليتية، ومن المدن الكبرى إلى الأنظمة السياسية، من الأسواق العالمية إلى التقاليد الثقافية، كلها تعود في أصولها إلى تلك الفترة الحاسمة التي قرر فيها الإنسان أن يصنع مصيره بيديه، العصر النيوليتي لم يكن مجرد مرحلة في التاريخ، بل كان لحظة الولادة الحقيقية للحضارة الإنسانية كما نعرفها اليوم.
اقرأ أيضًا.. “العصر الحجري القديم” بداية البشرية والتطورات الأولى