محمد أحمد كيلاني
في مدينة جيرسو القديمة بالعراق، اكتشف فريق من علماء الآثار معبدين متداخلين مرتبطين بهرقل والإسكندر الأكبر، ويُظهر هذا الاكتشاف عن تشابك ثقافي وديني غير متوقع، مما يتحدى فهمنا لبلاد ما بين النهرين القديمة ويسلط الضوء على التأثير الدائم للشخصيات الأسطورية على التاريخ.
معبدين في العراق
كانت جيرسو أو كرسو، المعروفة حاليًا باسم تيلو، مدينة سومرية ذات أهمية كبيرة، تقع في قلب بلاد ما بين النهرين، وازدهر هذا المركز الحضري كنواة دينية وسياسية، تاركًا إرثًا من الثروة الثقافية والمعمارية.
وفي نفس الوقت الإسكندر الأكبر ملك مقدونيا في القرن الرابع قبل الميلاد، لمعروف بفتوحاته، انتهى به الأمر إلى ضم هذه المنطقة إلى إمبراطوريته، ورغم أننا لسنا متأكدين من زيارته لمدينة جيرسو تحديدًا، إلا أن الوجود الهلنستي في المنطقة يوحي بمزيج من الثقافات التي تربط تراثه بالموقع، مما يتشابك تاريخ جيرسو مع انتشار الهلينية.
وفي مدينة جيرسو القديمة، جنوب شرق العراق، قام فريق من علماء الآثار من المتحف البريطاني باكتشاف غير مسبوق، قد اكتشفوا معبدين متميزين، أحدهما مبني على قواعد الآخر، في شهادة رائعة على التداخل الثقافي والديني على مدى آلاف السنين.
ويعود تاريخ المعبد العلوي إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وينتمي إلى الفترة الهلنستية وتظهر عليه علامات الارتباط مع الإسكندر الأكبر، الملك المقدوني الرمزي المعروف بفتوحاته الواسعة التي أعادت رسم خريطة العالم القديم.
يحتوي هذا المعبد الهلنستي على قالب من الطوب المحروق عليه نقش ثنائي اللغة باللغتين الآرامية واليونانية، وهو ما جذب انتباه الباحثين لرسالته الغامضة التي تشير إلى “المعطي للأخوة”.
وقد أثارت هذه العبارة جدلاً أكاديميًا حادًا، مما يشير إلى إشارة محتملة إلى الإسكندر الأكبر، ومن الممكن أن يكون النقش إشارة رمزية للملك كموحد أو حامي للأخوة، وهو تفسير يدعمه السياق التاريخي لحملاته واستراتيجيته لدمج الثقافات.
التكامل السكندري
تحت هذا المعبد الهلنستي، اكتشف علماء الآثار بقايا معبد سومري أقدم، مما يدل على استمرارية الموقع كمكان ذو أهمية روحية عميقة، ويؤكد هذا الاكتشاف أهمية جيرسو ليس فقط كمركز حضري سومري ولكن أيضًا كنقطة التقاء للتقاليد الثقافية والدينية المختلفة مع مرور الوقت.
وإن اكتشاف هذه المعابد المتداخلة في جيرسو لا يلقي الضوء على مدى تعقيد تاريخ بلاد ما بين النهرين فحسب، بل يسلط الضوء أيضًا على التأثير الدائم لشخصيات مثل الإسكندر الأكبر على نسيج تاريخ العالم.
ويوفر النقش، إلى جانب القطع الأثرية الأخرى الموجودة في الموقع، مثل العملات المعدنية والأشكال الطينية، نافذة فريدة على الممارسات الدينية والتفاعلات الثقافية في عصر حدده الغزاة العظماء واندماج العوالم.
واكتشاف هذه المعابد المتراكبة في جيرسو هو شهادة بليغة على الاستمرارية والتحول الثقافي والديني في بلاد ما بين النهرين، واختيار بناء معبد هلينيستي جديد على معبد سومري قديم يؤكد الاحترام العميق والارتباط بالماضي.
ولا تكرس هذه الممارسة قدسية المكان القديمة فحسب، بل توضح أيضًا كيف سعت القوى الجديدة، مثل إمبراطورية الإسكندر الأكبر، إلى الشرعية والاستمرارية من خلال دمج نفسها في التقاليد والتاريخ المحلي.
معبدين في العراق.. هرقل وانتشار الأساطير اليونانية
ومن بين القطع الأثرية المكتشفة، تحظى الدراخما الفضية بأهمية خاصة، وترمز هذه العملة المسكوكة في عصر الإسكندر، وعليها صور هرقل وزيوس، إلى اندماج الثقافات وأهمية الألوهية في شرعية السلطة.
وقد يشير وجود هذه العملة في الموقع إلى الأهمية الاقتصادية والسياسية لجيرسو خلال الفترة الهلنستية، بالإضافة إلى مدى التجارة وانتشار الأيقونات اليونانية.
وتقدم التماثيل الطينية، التي تصور الجنود والشخصيات الأسطورية، لمحة حميمة عن الممارسات الدينية والحياة اليومية في ذلك الوقت، وتعكس هذه التماثيل، التي ربما تكون عروضًا نذرية، إخلاص السكان المحليين والزوار، وتشير إلى دمج المعتقدات والطقوس.
واكتشاف هذه الأشياء في سياق المعابد المتراكبة يؤكد على تعقيد الروحانية القديمة والتفاعل بين التقاليد السومرية والهلنستية.
اتصالات في العالم القديم
تشير النقوش والتحف إلى أن الإسكندر الأكبر ربما كان له تأثير على جيرسو، حيث سلط الضوء على التوفيق الثقافي في ذلك الوقت.
ويوسع هذا الاكتشاف فهمنا لكيفية تعايش وتشابك الثقافتين السومرية واليونانية، مما يكشف عن بلاد ما بين النهرين القديمة الأكثر ترابطًا وتعددًا للثقافات.
ويُبرز هذا الاكتشاف في جيرسو عن تقاطع رائع بين التراث السومري والهلنستي، مما يمثل علامة فارقة في فهمنا لبلاد ما بين النهرين القديمة، ويكشف عن ديناميكيات التعايش الثقافي والتكيف، مما يؤكد التأثير الدائم للإسكندر الأكبر على المنطقة.
ولا يثري هذا الاكتشاف المعرفة الأثرية فحسب، بل يدعونا أيضًا إلى التفكير في كيفية تفاعل الحضارات القديمة وتأثرها ببعضها البعض وترك تراث يتجاوز العصور، مما يدل على مدى تعقيد التاريخ البشري وغناه.
أقرأ أيضاً.. بوابة عشتار.. قطعة من مجد بابل