رُكن مقالات مُستبشر

بسبب فضلات طائر النورس.. هكذا وُلدت جزيرة جديدة في قلب المحيط الأطلسي

محمد أحمد كيلاني

أحيانًا، لا تبدأ أعظم القصص بانفجار إعلامي ضخم، بل بنفحة من الكبريت وسط المحيط، ففي فجر يوم عادي قبالة سواحل آيسلندا، لاحظ أحد الصيادين رائحة غريبة، غير مألوفة حتى لمن اعتادوا على رائحة البحر والأسماك، فلم يكن أحد يتخيل أن تلك الرائحة ستعلن ولادة جزيرة جديدة، وستمنح العلماء فرصة نادرة لدراسة نشوء الحياة على أرض بكر.

ولادة جزيرة جديدة من العدم.. مختبر للحياة

ظهور جزيرة سرتسي، التي تشكلت بفعل ثوران بركاني وسط شمال الأطلسي، لم يكن مجرد حدث جيولوجي استثنائي، بل منح البشرية نافذة فريدة لرؤية كيف تشق الحياة طريقها من العدم، الصخور المشتعلة، الأمطار الرمادية، والحمم المتدفقة رسمت مشهدًا بدا معاديًا للحياة، لكنه أصبح لاحقًا ميدانًا ساحرًا لعلماء البيئة في القرن العشرين.

الشيء المذهل في سرتسي لم يكن فقط ولادتها النارية، بل الطريقة التي استعمرتها بها الحياة، بذور طارت مع الريح، حشرات جرفتها العواصف، وطيور بحرية حملت بأجنحتها المغطاة بالمغذيات حياة جديدة، وكان لفضلات طيور النورس، المحمّلة بالنيتروجين، الدور الأساسي في إخصاب التربة البركانية، مما أتاح الفرصة لنمو أولى النباتات وتأسيس مجتمع بيئي متكامل.

جزيرة جديدة مفعمة بالحياة من خلال حركة الكائنات

ليست هذه القصة عن جزيرة فحسب، بل عن الدور الخفي والحيوي الذي تلعبه الحيوانات في ديمومة الحياة على الكوكب، فبفضل حركتها، تنفسها، غذائها وحتى موتها، تُنقل العناصر المغذية لتشكل أنظمة بيئية متكاملة، إنها ليست مجرد قصيدة بيئية، بل كيمياء حيوية فعّالة.

نعم، الحياة تتقدم على أكتاف الكائنات الحية المتنقلة، ومن أعماق البحار إلى أعالي الجبال، من تيارات المحيطات إلى المنحدرات البعيدة، تتحرك الحياة مع أجساد الحيوانات، بلغة عضوية بسيطة وعالمية: مواد تدخل أجسامها، تتحول، ثم تخرج أحيانًا كفضلات، وأحيانًا كإرث حي.

جهبهذا المفهوم العميق، وبعين العالِم الذي كرّس حياته لكشف الدورات الخفية التي تدعم الحياة على الأرض، يدعونا العالم جو رومان لننظر إلى كوكبنا من زاوية غير مألوفة لكنها كاشفة. نعرض لكم الآن مقتطفًا حصريًا من الفصل الأول من كتابه: “كُل، تبرّز، مت”، الصادر عن دار نشر (Pinolia)، والذي يعيد صياغة فهمنا لدور الحيوانات في توازن العالم.

البدايات

في فجر يوم 14 نوفمبر 1963، كان قارب الصيد الآيسلندي (إيسليفور 2) يرمي شباكه قبالة الساحل الجنوبي الشرقي للبلاد، وبينما كان الطاقم يستريح تحت السطح، شمّ المهندس رائحة كبريت قوية أثناء احتساء قهوته على السطح، ولم يرَ شيئًا مريبًا في مياه السفينة، فعاد ليكمل راحته.

بعد نصف ساعة، لاحظ الطباخ المكلّف بالمراقبة أن السفينة بدأت تتمايل كما لو كانت في دوامة، فيما ارتفعت سحابة دخان داكن من البحر الفيروزي، وصاح بمن على متن القارب، الذين هرعوا لرؤية مصدر الخطر، وكن كل ما رأوه كان عمودًا من الرماد.

من عمق 120 مترًا تحت سطح البحر، بدأ القاع يهتز، قبل أن تنفجر التوفرا (مزيج من الرماد وشظايا الصخور) من أعماق المحيط، متجاوزة السفينة، ارتفع الدخان إلى أكثر من 1500 متر في السماء، التي تحولت من زرقاء إلى بنية مائلة للأخضر، ثم وصلت السحابة البركانية إلى أكثر من 3 كيلومترات، ليتضح حينها أن القارب كان فوق فوهة بركان نشطة.

عندما سحبوا شباكهم أخيرًا، لم يكن فيها أي سمكة.

جزيرة جديدة تولد من أعماق المحيط

في صباح اليوم التالي، ارتفعت جزيرة جديدة تسعة أمتار فوق سطح المحيط، ومع استمرار تدفق الحمم والرماد، ارتفعت الجزيرة بمعدل 60 مترًا في اليوم، ووفي غضون أسبوع، بلغ ارتفاع العمود البركاني 10 كيلومترات، مشوبًا بالبروق والنيران.

رأى سكان مدينة هيماي، الوحيدة في جزر “فستماننايار” البركانية، توهجًا ناريًا في الأفق، ثم هزّت الزلازل منطقتهم، وفي 6 ديسمبر، وصل ثلاثة صحفيين فرنسيين إلى الجزيرة الجديدة، وبقوا 15 دقيقة فقط قبل أن تهددهم ثورة جديدة.

اختيار الاسم.. من أولاف إلى سرتسي

في البداية، اقترح البعض تسمية الجزيرة “أولافسي”، نسبة للطباخ الذي رآها أولًا، بينما فضّل آخرون اسم “فستوري” (جزيرة الغرب)، لكن في آيسلندا، الأسماء أمر جاد، ويقررها مجلس خاص، اختاروا اسم “سرتسي”، المستوحى من الأسطورة الإسكندنافية، حيث يُشعل العملاق “سورتر” النار في العالم خلال نهاية الزمان.

غضب سكان فستمان من الاسم، وأبحروا إلى الجزيرة ليضعوا لافتة باسم “فستوري”، لكن الجزيرة ردّت عليهم بالقذف بالصخور والرماد، ولم يصب أحد، وبقي اسمها: سرتسي.

توسّع الجزيرة وأول الهبوط العلمي

خلال عامها الأول، توسّعت سرتسي بمعدل 27.4 مترًا مكعبًا في الثانية، لتضيف مساحة يومية تقارب حجم الهرم الأكبر. الأرض كانت سوداء لامعة، والحمم تنساب إلى البحر.

كان البروفيسور “سيغوردور ثورارينسون” أول عالم براكين يهبط على سرتسي بعد نحو ثلاثة أشهر من بداية الثوران، وبينما كان يجمع عينات صخرية، انفجرت “قنابل لافا” ضخمة حوله، بعضها بلغ قطره مترًا، وسقط على الشاطئ مصحوبًا برنين مدوٍ.

قال لاحقًا: “في تلك اللحظات، كل ما يمكنك فعله هو أن تقاوم رغبة الهرب، تنظر للسماء، وتحاول ألا تتحرك حتى لا تسقط القنابل فوق رأسك”، وأضاف: “لكن لا تطل النظر، فقد تحترق نعلاك من سخونة الأرض”.

عندما هدأ البركان، بدأت الحياة تزحف شيئًا فشيئًا نحو سرتسي، وكانت أول بذرة وأول طائر وأول فضلة بداية فصل جديد من الحياة على أرض لم يطأها أحد من قبل.

اقرأ أيضًا.. جزيرة الفصح.. موطن عبادة الأسلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *